هل (البسته) أصل الأغنية العراقية الحديثة؟

هل (البسته) أصل الأغنية العراقية الحديثة؟

علي عبد الأمير عجام

تعد البستات وثائق نغمية متميزة، بحسن ادائها و لطف تلحينها اضافة الى ما عسى ان يكون التنويه فيها بحدث تاريخي، فلقد كان بعض الغناء لدى البغداديين يؤرخ به لاكثر من مسالة كائنة في حياة الناس، و معظم البستات التي غنيت في مجالس المقام ببغداد كانت موفقة في تلحينها،

و قد يكون مرد شيوعها الى هذا ان "لدينا من البستات القديمة المجهولة الملحن ـ والتي لم تكن قد نقلت من الحان قادمة من الخارج ـ اغنية "دشداشة صبغ النيل"، فان لهذه البستة تلحيناً موفقاً غاية التوفيق و ماتزال، على قدمها، تفعل فعلها في الامزجة و العواطف.

و من البستات القديمة الشجية: "بالله يا مجرى الماي ذبني عليهم" و منها "حّمل الريل و شال للناصرية"، "گلي يا حلو منين الله جابك"، "فوك النخل فوك"، "جواد جواد مسيبي"، و (فراك الحلو بچاني، "يا زارع البزرنگوش" و "يا صياد السمچ".

ويعيد الشيخ الراحل الحنفي بعض البستات الى احداث وقعت في البلد فمنها "أنا المسيجينة انا، انا المظيليمة انا، انا الباعوني هلي بنوط والوعدة سنة" و هي تشير الى العملة الورقية التي اصدرتها الحكومة العثمانية ايام الحرب العالمية الاولى دون غطاء ذهبي، و قد كتب عليها ما يشير الى تعهد الدولة بدفع ليرات ذهبية لقاءها بعد انتهاء الحرب. فكانت الناس تتهرب من التعامل بها حتى كانت شكوى تلك العروس من زواجها على مهر من تلك النقود. فيما صار القطار وسيلة التنقل الى مدينة الناصرية اليها فكانت هناك اغنية تشير الى هذه الاحداث و هي "حمل الريل و شال للناصرية" و الريل هو القطار".

و كان اول من غنى في بغداد واقفا الاستاذ القبانجي، ثم مضى على ذلك من بعده يوسف عمر و عبد الرحمن خضر، و صار وقوف المغنين حالة طبيعية عند الغناء.

اذا كان اساطين الاداء المقامي، برعوا في "البستة" التي صارت الرحم الحقيقي للاغنية الحديثة، فان لهذه الاغنية التي صارت قرينة ببغداد الذاهبة حينها بثقة الى التطور العمراني والثقافي والاقتصادي، صارت صاحبة تأثير قوي، حدّ ان "نجوم" الاغنية الريفية، حرصوا على الظهور في بازياء المدينة الانيقة، فثمة صورة بالغة الدلالة، للمطرب الريفي الفذ، حضيري ابو عزيز، وهو في كامل بدلة السهرة الاوروبية، وذلك لم يكن تأثرا خارجيا اعتباطيا، فالرجل كان دخل الجو الغربي الحديث، حين حرصت شركات تسجيل الاسطوانات الالمانية والبريطانية ثم العراقية، على تسجيل اغنياتها في ستيدوهات متطورة تقنيا وبصحبة موسيقيين يقودهم مايسترو وامامهم النص اللحني "النوتة الموسيقية".

"البستة" وصورتها الاجتماعية

ويرى الباحث المرموق في الموروث البغدادي، واللغوي الراحل الشيخ جلال الحنفي ان "البستات من المصادر النغمية المهمة، و الاصل في تسميتها: انها تعني نغمة مذيلة تاتي بعد الفراغ من المقام اوقبل الفراغ منه. و غلب على البستات ان تغني بعد الانتهاء من غناء المقام، اذ صار يغنيه الجوق الموسيقي المصاحب للمغني، و يتولى ادارتها بستچي معترف به يكون ضمن جوق الجالغي في هذه الحالة وان لم يعزف شيئا".

وتكون "البستات" من "جنس النغمة الاساسية في المقام، و قد يشارك في انشاد البستة مغني المقام نفسه. و من الضروري الاشارة هنا الى ان قارئ المقام كان يجلس الى جوار جماعة الجالغي، و لم يعرف في غناء المقام وقوف المغني على قدميه، انما حدث ذلك بعد الاربعينيات تقليداً لما كان يجري في بعض البلاد العربية بفعل ماحدث من ضخامة الفرقة العازفة، و استعمال المايكروفونات، لذا جعل للمغني حق الانفراد و البروز لاسيما حين يكون الغناء على مسارح كبيرة و امام مستمعين كثيرين".