موديلياني

موديلياني

هادي ياسين

الكتاب الوحيد الذي صدر بالعربية عن الفنان الإيطالي " أميديو موديلياني " هو كتاب (الملاك الفاسد) الذي وضعه الرسام و الكاتب و المخرج المصري " يوسف فرنسيس "، و من خلاله تعرف القراءُ و الفنانون التشكيليون العرب على حياة و مكانة هذا الفنان.

ولكن الكتابَ لم يكن كتاباً نقدياً تحليلياً بل هو كتابٌ تعريفي مكتوبٌ بأسلوب رومانسي، و مع ذلك فأنه يُحسبُ للكاتب فضله في التعريف به عربياً، و لعل الكتابة عن " موديلياني " لا تتحمل أكثر من هذا، ذلك أن طبيعة حياته الشخصية طغت على سيرته كفنان، و هو من صنف الفنانين الذين تداخلت مصاعب حيواتهم مع فنونهم.

غير كتاب (الملاك الفاسد) توجد مقالات ورقية قليلة أو مبتسرة عنه و مقالات ألكترونية قليلة أيضاً، ولكن الفنانين التشكيليين العرب، كما هو شأن الفنانين في العالم، يعرفونه من خلال فنه، و هو الفنان الذي ترك بصمته الفنية على المستوى العالمي و رحل مبكراً في السادسة و الثلاثين من عمره.

إن أحد أعمدة سيرة هذا الفيلم هو الصراع الخفي و العلني و التنافس الحاد الى درجة الكراهية بين " بيكاسو " و " موديلياني " الى حد أن " بيكاسو " يشهر المسدس في وجهه، و سبب هذا الصراع هو أن " موديلياني " لا يعترف بفن " بيكاسو "، و يرى أنه متحذلق و يضحك على الآخرين، و خبيث، و مشكلة " موديلياني " أنه صادق مع نفسه و عفوي و مخلص لفنه و يرى في " بيكاسو " و فنه طرفاً نقيضاً له، و يرى أن الجمهور الذي يتهافت على أعمال" بيكاسو " إنما هو جمهور ارستقراطي ساذج. ولكن هناك من يرى أن هذا العداء هو من اختلاق الفيلم و ليس منه شيء على أرض الواقع.

يبدأ الفيلم من عام 1919، بمشهد في حانة باريسية تجمع المشاهير في العاصمة الفرنسية، و منهم " بيكاسو " و هو يرسم تخطيطاً على منديل المائدة، ثم يطلب من صاحب المطعم عشاءً و يعطيه المنديل ثمناً للعشاء، ولكن صاحب المطعم يخبره أنه لم يوقع على المنديل، فيرد عليه " بيكاسو ": (قلتُ: أشتري عشاءً و لم أقل أشتري المطعم)، و في ذلك دلالة على أنه لو أن " بيكاسو " وقـّع على المنديل لأصبح عملاً فنياً سيُباع بآلاف الفرنكات. في حين أن " موديلياني " ما كان يمتلك ثمن كأس شراب و هو الذي يرى أنه أهم من " بيكاسو " فنياً.

وهذا الفيلم لا يتناول السيرة الذاتية الكاملة لـ " موديلياني "، بل السنة الأخيرة من حياته في باريس، و التي أنهاها تحت تأثير الكحول و المخدرات و الفقر و التشرد إضافة الى إصابته بمرض السل منذ صغره.

القضية الأساسية الأخرى التي جعلها الفيلم تتداخل مع قضية " بيكاسو " هي علاقة الحب بين " موديلياني " و " جان " طالبة الفن التي أحبها الفنان و بادلته الحب الحقيقي و أنجبت منه طفلة ً غيرَ شرعية، ثم حملت منه جنيناً أخذته معها في بطنها حين انتحرت. ولكن ثمة نقطتين أساسيتين سممتا هذه العلاقة، النقطة الأولى تتعلق بالدين، فقد كان " موديلياني " يهودياً، ولكنه لم يكن ليقيم اعتباراً لذلك، أما " جان " فقد كانت تنتمي الى عائلةٍ فرنسيةٍ مسيحية كاثولوكية، و كان والدها متزمتاً، ولذلك عارض زواجهما معارضة ً شديدة. و في بحر مشاكله، يعود " موديلياني " بذاكرته المشوشة الى عام 1892، عندما كان في الثامنة من عمره و قد صادرت السلطات الإيطالية ممتلكات عائلته اليهودية بذريعة عدم دفع الضرائب.

النقطة الثانية التي سممت هذه العلاقة تمثلت في الفقر المدقع الذي يعيشه " موديلياني " فوق ما كانت " جان " تعانيه من تزمت والدها و اعتراضه القاطع على زواجهما. حتى أن " موديلياني " يعرض عليها الإنفصال كونه لا يستطيع إعالة ابنته في غرفة بائسة خالية إلا من فراش بائس مطروح على الأرض و قناني النبيذ الفارغة. حينها، تذهب " جان " الى صديقهما تاجر اللوحات الشاعر البولندي " ليوبولد زبوروفسكي " ـ مثل دوره " لويس هيلير " ـ لتطلب منه أن يعرض لوحة لـ " موديلياني " الى جانب لوحة " بيكاسو " و هذا ما يغضب " موديلياني " بطبيعة الحال، و في ذلك اشارةٌ من الفيلم للإيحاء بقيمة " بيكاسو " و تبيان تفاوت المكانة الإجتماعية بينهما. ولكن الفيلم توقف عند هذه النقطة فقط بخصوص فن " موديلياني " و لم يتطرق الى شعبية لوحاته و بيعها عام 1918 عندما عاش لمدة عام في الساحل الجنوبي الفرنسي هو و " جان "، و لا الى نجاحات معارضه في بريطانيا عام 1919. كما أن " موديلياني " توفي في الرابع و العشرين من شهر يناير / كانون الثاني 1920 بتأثير مرض السل و تحت وطأة الإدمان المفرط على الكحول و المخدرات، ولكن الفيلم أضفى على نهاية " موديلياني " صبغة درامية لتكون نهاية سينمائية و ليست كما حصلت في الواقع. " جان " لم تتحمل رحيل " موديلياني " فأصابها المَس فانتحرت في اليوم التالي لرحيله. و ثمة صبي كان قد ظهر فجأة و هو يعاتب " موديلياني "، ثم ظهر أكثر من مرة، حتى بعد موته. هذا الصبي لا يمكن أن يكون إلا ضميره الذي كان يؤنبه كونه قد أتلف حياته، و إلا فلا مبرر لوجوده في الفيلم.

أما ابنتهما اليتيمة، في الواقع و ليس في الفيلم، فقد أخذتها أختُ موديلياني الى (فلورنسا) لتتبناها و تعيش في كنفها، و تكتب لاحقاً سيرة والدها في كتابٍ بعنوان (موديلياني.. الرجل و الأسطورة).

· عن مدونته في موقع التواصل الاجتماعي " فيسبوك "