موديلياني وحبيبتُه: مات مساءَ السبت فانتحرَت صباحَ الأَحد

موديلياني وحبيبتُه: مات مساءَ السبت فانتحرَت صباحَ الأَحد

هنري زغيب

لعلَّها أَغرب قصة حب صاخب بالشغف والوله والولع والجنون عرفها الوسَط التشكيلي العالَمي بين رسام ورسامة.

تركت أَهلها لتعيش معه رغمًا عنهم. عاشا معًا، عملا معًا. واحتملت معه أَنواع العذاب.

توفِّـي مساء السبت فانتحرت صباح اليوم التالي: الأَحد. وكما عاشا معًا ضمَّهُما معًا قبرٌ واحد. هي ذي، في هذا الجزء الأَول، ملامحُ من قصة الحب بين أَميديو موديلياني وحبيبته جانّ هيبوتيرن.

صحيح أَنها اشتُهرت في أَوساط عصرها بكونها حبيبة موديلياني الذي خلَّدها في لوحاته، لكنها عاشت معه أَتعس قصة حب مأْساوية بين رسام ورسامة.

كانت شعاع أُنوثة طاغية بجمالها وعُذُوبتها، ذاتَ رقَّة لافتة، وتَعَلُّقٍ به غير عاديّ، وكان هو مستهترًا بصحته، مدمنًا أَبشع حالات السُكر والهذيان.

صديقُه الكاتب السويسري شارل أَلبير سينغريا (1883 - 1954) وصفَ جانّ بـ"اللطيفة، الهادئة، الهانئة، الخجول"، ورأَى إِليها أَصدقاؤُه وعارفوه صبيةً جميلةً تميَّزت بشعرها الكثيف الطويل يظهر دومًا منمَّقًا في لوحات الفنان.

نادرًا ما كانا يظهران معًا. كانت تكتفي بأَن تجلس له في محترفه، فيرسُمها في حالات وأَوضاع مختلفة، مرتدية أَو نصف عارية أَو حتى عارية، حتى غدَت في الأَكثرية المطلقة من لوحاته.

كان موديلياني فترتئذٍ غادر موطنه إِيطاليا (وُلد في ليڤورنو سنة 1884)، حمل ربيعه الثاني والعشرين، وجاء يلتحق ببوهيميِّــي باريس مع فجر القرن العشرين.

انطلق سنة 1906 في عاصمة الفنون، مشكِّلًا شهرة مميزة برسمه نساء كثيرات وبوَسامته اللافتة يجذبهنّ إِلى محترفه. لم تكُن تُزعجه صفة "البلاي بوي" يُغدقها عليه زملاؤُه، فهو فعلًا كان مستهترًا، لاهيًا، غارقًا في الملذات، متنقِّلًا من عشيقة إِلى أُخرى.

أَبرزُ ما شاع في أَوساط باريس الفنية من تمايُزاته التشكيلية مغايرًا موجةَ الانطباعية والتكعيبية عهدذاك، أُسلوبُه الخاص في الرسم بإِطالة الوجه والعنق والجسم عموديًّا، ما كان جديدًا على المدارس الفنية الباريسية وخارج التصنيف. وهو اعتمده منذ أُولى محاولاته في الرسم، حتى قبل انتسابه إِلى الدراسة الأَكاديمية لدى الرسام ميكيلّي في ليڤورنو (1898-1900) ولدى الرسام موريلِّي في روما (1901-1902) ولدى أَكاديميا الفنون الجميلة في فلورنسا (1904(.

حين وصل إِلى باريس (1906) انصرف أَوَّلًا إِلى النحت، قبل أَن يشتهر بأُسلوبه في لوحاته الزيتية بين 1916 و1919، كلَّفه بمعظمها صديقُه تاجر الفن الشاعر البولوني ليوبولد زْبوروڤسكي (1889 - 1932) وزوَّده بمعداتٍ وأَدوات للرسم ومدخول ثابت وأُجور النساء الموديلات في محترفه، فنحا أَميديو بريشته إِلى ملامح الأَقنعة جامعًا تقنية الأُسلوب التكعيبي إِلى الأَفريقي إِلى المصري إِلى الآسيوي.

إنّها الصبيَّة الفرنسية جانّ هيبوتيرنْ (1898 - 1920). رغِبَ شقيقُها أَندريه أَن يَدخل أَوساط عالَم الرسم، فجاء بها من بلدة ولادتها ("مو" في مقاطعة إِيل دو فرانس شمالي فرنسا) إِلى أَوساط مونبارناس الفنية في باريس، وقدّمها إِلى عدد من الرسامين كي تكون موديلًا فنيًّا لهم في محترفاتهم، أَبرزُهم الفرنسي الياباني الأَصل تْسوغوهارو فوجيتا (1886 – 1968) الذي رسمها في أَوضاع مختلفة فظهرت في عدد من لوحاته.

أَغراها هذا الوسط الفني فرغبَت هي أَيضًا أَن تحترف الرسم. في ربيع 1917 قدَّمتْها صديقتُها النحاتة شانا أُورلوڤ (1888 - 1968) إِلى "أَكاديميا كولاروسّي للرسم والنحت" (أَسَّسها في باريس الرسام والنحات الإِيطالي فيلـيـبُّـو كولاروسي سنة 1870 وأُقفلت بوفاته سنة 1930). وكانت أُورلوڤ تدرس النحت وتستفيد من موديلات النساء في الأَ كاديميا، وبينهنَّ جانّ.

في الأَكاديميا تعرَّفت جانّ بالرسام والنحات الإِيطالي الشاب آماديو موديلياني (1884 - 1920) وكانت شهرته بدأَت تسري في باريس. لَفَتَتْهُ ابنةُ التاسعة عشرة بجمالها الخاص وأُنوثتها العذبة، وسرعان ما أَنهى علاقتَه فترتئذٍ بالشاعرة والناقدة الفنية البريطانية بياتريس هاستِنْغْسْ، وارتبط بجانّ، وانتقلا للعيش معًا في شقَّته القريبة من الأَكاديميا في شارع "لا غراند شوميـير". ومن يومها اشتهرت جان بـ"موحِيَة أَميديو" وظهرت في معظم لوحاته.

منذ تعرَّفت به وجدَت فيه شابًّا وسيمًا، جذبها إِليه ذكاؤُه وشيْءٌ من الغيرة النسوية لكونه محاطًا بالمعجَبَات في الأَكاديميا وخارجها، فعقدَت معه علاقةً بدأَت هادئة ثم تحوَّلت بسرعة إِلى عاصفةٍ من الحب والشغَف والجنون. وبالرغم من معارضة أَهلها، انتقلَت للسكن معه في شُقَّته، غير حادسةٍ بأَن حياتها معه ستكون مجرَّحة بالعذاب والشقاء. فهو كان مدمنًا على الخمر والمخدِّرات حتى السُكْر الأَعمى، محاولًا بإِدمانه تخفيف آلامه من إِصابته بالسلّ منذ مطلع صباه، وكان ذاك مرضًا تفشَّى في باريس مع مطلع القرن العشرين وأَودى بالمئات لفقدان علاجٍ ناجعٍ له.

· عن جريدة النهار اللبنانية