قراءة في كتاب 97 عاماً من مسيرة المسرح في العراق

قراءة في كتاب 97 عاماً من مسيرة المسرح في العراق

د‬باقر الكرباسي

ورد في مأثورات القدماء أن السماء قد أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء من البشر، على أيدي الصينيين وعقول اليونان وألسنة العرب، وقد فطن العرب بأن البلاغة والشعر ومهارة اللسان هي جماع قدراتهم الفنية وعلو عطائهم الحضاري بين الشعوب، وفن المسرح من بين تلك الفنون التي اهتم بها العرب، يقول أحد الباحثين‮:

(‬كانت هناك اتصالات ثقافية وفكرية شملت الفكر والفلسفة الإغريقية، واطلع العرب على فلسفة إفلاطون وإفلوطين وأرسطو وسقراط وبيدبا‮)‬، معنى ذلك أن الحضارة العربية اطلعت على تراث الإغريق وخاصة عندما ترجم إبن رشد‮ (‬595 هج‮) ‬كتاب‮ (‬فن الشعر‮) ‬لأرسطو الذي تكلم فيه عن التراجيديا والكوميديا، يقول روزنثال‮: (‬أما الأدب المسرحي بمعناه الصحيح او أشكال الشعر المتصلة به والتي تمثل على مسرح أمام جمهور من الناس، فلم تمارس في عالم الإسلام في العصور الوسطى، وعوضا عن ذلك ظهر في العالم العربي مايمكن أن نعده بمعنى ما بديلا عنه وهو نوع الأدب المعروف بالمقامات‮). ‬

وعن القول المتقدم لروزنثال وجدت تعليقا للدكتور علي عقلة عرسان يرد فيه على روزنثال قائلا‮: (‬أخطأ روزنثال في بحثه عن أدب مسرحي‮ (‬صحيح‮) ‬بمفهوم النمط الأوربي للمسرح المتكامل المتطور في العصور الحديثة، وأصاب في الإشارة إلى البدائل، وإن كنت لاأتفق معه في أن تلك البدائل هي على أظهر ماتكون عليه قربا من المسرح في المقامات‮).‬

وليس من شك في أن ظاهرة المسرح كغيرها من الظواهر الفنية في حياة المجتمعات تثير عددا من التساؤلات والخلافات بين العاملين في هذا الحقل والمهتمين بأمره، وهي خلافات تتنوع وتتشعب طبقا للموقف الذي يتخذه كل فنان ودارس من هذه الحياة، إذ ان الفن المسرحي من الوسائل الفنية الضرورية لإتحاد الفرد والجماعة وهو يعكس بلا شك قدرته اللامحدودة على المشاركة واقتسام الأفكار والخبرات، فالعرض المسرحي عند جان لؤي بارو هو لقاء بين مجموعتين إنسانيتين، الأولى هي الجمهور والثانية هي الفرقة المسرحية‮.‬

وصلني قبل أشهر قليلة كتاب الفنان والباحث أديب محمد القليه جي‮ (‬97 عاماً من مسيرة المسرح في العراق‮) ‬فوجدته واحداً من أهم الكتب التي أرخت للمسرح العراقي، الكتاب بصفحاته الأربعمئة وتزيد قليلاً وبغلاف أنيق وحرف مقروء، صادر في سنة 2013 بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية ، ويتصدر صفحاته إهداء جميل يقول‮: (‬إلى زوجتي‮.. ‬الفنانة وداد سالم رمز الإبداع ومثال التضحية والوفاء‮).‬

تضحيات جسام

‮(‬بداية الكلام‮) ‬هي مقدمة كتبها القليه جي يقول فيها‮: (‬لم يدر في خاطري يوما الكتابة في موضوعة تاريخ المسرح العراقي‮... ‬أو الخوض في الكشف عن مسيرته، والجهود التي بذلت في سبيل تقدمه وتطوره، والتضحيات الجسام لأولئك الرواد الأوائل والأجيال التي أتت بعدهم من أجل وضع أسس المسرح في بلادي والتزود بالخبرات من الدول المتقدمة علينا في هذا المجال، وما صل إليه فن المسرح عندنا من تألق أدهش الآخرين قبل الأهل، لأن موضوعا كهذا بعيد عن تفكيري أولا، ومن ثم بعيد عن إختصاصي، وربما يقودني التورط فيه إلى الوقوع في زلات تؤذي الآخرين، وأنا لااريد هذا ولاانشده بأية حال‮).‬

قسم القليه جي كتابه هذا على عشرة فصول بدءاً من 1882 إلى 1921وقدم له قائلا‮: (‬كثيرة هي الآراء والتحليلات التي طرحت حول بدايات المسرح على خريطة الأرض، تفاوتت هذه الآراء وتقاطعت مع بعضها البعض‮). ‬

وبعد مناقشة هذه الفقرة ينتقل القليه جي إلى البلاد العربية وظهور المسرح فيها فيقول‮: (‬أما البلاد العربية فلم تعرف المسرح قبل أواسط القرن التاسع عشر ولم تشاهد من هذا الفن إلا النزر اليسير، وهو ماكانت تقدمه بعض الفرق الأجنبية في مناسبات خاصة‮) ‬، وبعد أن استعرض المؤلف بدايات المسرح في لبنان وسوريا ومصر ومن ثم يعرج على تونس شارحا العروض الأولى للمسرحيات في تلك الدول، بعدها ينتقل القليه جي إلى الفصل الثاني وعنوانه‮ (‬1882‮-‬1920‮) ‬فيقول فيه‮: (‬رب سائل يسأل‮.. ‬هل تأخر دخول المسرح إلى العراق‮..‬؟ فيجيب قائلا‮: (‬هناك من يقول إن المسرح في العراق بدأ مع بداية الحكم الوطني، أي في عام 1921 م، وآخرون يقولون ان المسرح عندنا كان موجودا قبل هذا التاريخ، ويمكن تحديد زمانه بالثالث الأخير من القرن التاسع عشر‮) ‬، وجدت الباحث يميل إلى القول الثاني ويصفه بأن فيه الكثير من الصواب، ويعرج على القول الأول ويعطيه صفة الصواب أيضا ويؤكد ان الفرق المسرحية بدأت مع بداية الحكم الوطني الذي نصب فيه فيصل ملكا على العراق سنة 1921م، ويؤكد القليه جي في عرضه لدخول المسرح للعراق قائلا‮: (‬لاحظنا في دراستنا هذه أن المسرح في العراق لم يدخل عن طريق العاصمة بغداد، فالمسرح عندنا دخل من بوابة شمالية صغيرة وهي من أكثر المدن تمسكا بالعادات والتقاليد والموروثات ، في نفس الوقت وهي مدينة غنية أيضاً بمثقفيها وعلمائها وشعرائها وحتى فنانيها ، إنها مدينة الموصل، والغريب أيضاً ان كل جهود نقل التجربة المسرحية إلى البلدان العربية هي جهود فردية‮).‬

في العراق يقول المؤلف‮: (‬دخل المسرح عن طريق جماعي، أغلب الذين قاموا بنقله هم المسيحيون من الرهبان والمدرسين العاملين في الكنائس الموصلية ومدارسها وكان السعي لعرض المسرحيات في هذه المدارس المسيحية غرضه التبشير الديني، وخلق قيم أخلاقية وإنسانية معاصرة‮). ‬

وعن العروض المسرحية في بغداد يقول القليه جي‮: (‬قبل مغادرتنا للعقدين الأول والثاني، لابد من الإشارة إلى مسرحية جديدة ألفها‮ (‬محمد مهدي البصير‮) ‬شاعر ثورة العشرين التي اندلعت ضد الوجود الإنكليزي في بلدنا، وهذه المسرحية تحمل اسم‮ (‬النعمان بن المنذر‮).‬

وعن ريادة المسرح في العراق يذكر المؤلف‮: (‬إن الرائد المسرحي‮ (‬نعوم فتح الله الاسحار‮) ‬الذي أقر الجميع على ريادته للمسرح العراقي بمسرحية‮ (‬لطيف وخوشابا‮) ‬وهذا التعريف على تواضع المعلومات فيه ضروري جدا لنفي الرجل بعض حقه ونعطيه الأهمية والمكانة التي يستحقها وهو واجب تمليه علينا الحقائق والموضوعية أيضاً‮). ‬

فتح عمورية

أما الفصل الثالث والذي أرخه من 19231 إلى 1930 ، فيتحدث فيه عن المسرحيات التي قدمت في هذا العقد من السنين، ويشير إلى مسرحية‮ (‬فتح عمورية‮) ‬كثيرا ويصفها بأنها من إنتاج أدبي ومسرحي عراقي صرف، ويضيف القليه جي بأنها اول مسرحية تاريخية عربية ألفت ومثلت في العراق‮) ‬ويستعرض أيضا في هذا الفصل الزيارات المتعددة للفرق المسرحية العربية التي وفدت إلى العراق وتأثيرها على المهتمين في المسرح العراقي، وفي الفصل الرابع من الكتاب يشير القليه جي بأن العقد المحصور بين‮ (‬1931‮-‬1940‮) ‬كان عقدا ذهبيا من عمر المسرح العراقي بظهور العدد الكبير من الفرق المسرحية وغزارة نتاجاتها، مع نوعية تلك الفرق والمسؤولين عنها.

ومن حسنات المؤلف لهذا الكتاب هو أمانته العلمية واستعراضه لجميع ماقاله الباحثون والمهتمون بالمسرح العراقي وتاريخه، فيستشهد بما قاله الدكتور علي الراعي المصري في كتابه‮ (‬المسرح في الوطن العربي‮) ‬وكذلك ماذكره احمد فياض المفرجي والدكتور علي الزبيدي وآخرون، وفي الفصل نفسه تحدث القليه جي عن حقي الشبلي وفرقته وكيف طالب الشبلي بضرورة تشيــــــــيد أوبرا رسمية في بغداد، والعقد من 1941 حتى 1950 كان الفصل الخامس، إذ تحدث فيه المؤلف عن أهم أحداث هذه الفترة فيشير إلى تأســــــيس الفـــــــرقة الشعبية للتمثيل في 12 آب 1947م وإجازتها بالعمل المسرحي، ويصف سني هذا العقد بأن المسرح خطواته كانت جديدة بفتح قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة، وفي الفصل السادس وتاريخه من 1951 حتى 1958 وهنا يؤكد بأن فرقا مسرحية جديدة أسست منها فرقة المسرح الحديث 1952، ويقول برزت ظواهر جديدة دفعت بالحركة المسرحية أشواطا بعيدة إلى أمام في طريق التطور والنضوج، ولعل اهم هذه المظاهر‮: ‬ظهور المذاهب والمدارس الفنية الجديدة التي لم تكن معروفة سابقا في وسطنا المسرحي، اما الفصول الأربعة الأخيرة فقد ارخها من 1958 حتى 1979 وفيها مادة وثائقية مهمة غنية بأسماء الفنانين والفرق والعروض المسرحية التي قدمت في هذه العقود من السنين‮.‬