د. لمى عبد العزيز مصطفى
تعود بداية الاتصالات البرقية في الدولة إلى العقد السادس من القرن التاسع عشر، ولم يكن ادخالها نابعاً من مجرد الرغبة في استخدام وسائل الاتصالات الحديثة التي عرفتها اوربا آنذاك، وجعلها متاحة لاغراض الخدمة، بل جاء استعمالها نتيجة الحاجة اليه ابان حرب القرم.
حيث قام البريطانيون والفرنسيون، حلفاء الدولة في حربها تلك مع روسيا، بمد اول خط برقي لايصال اخبار المعارك إلى العاصمة. وبالفعل وصلت اول رسالة برقية من ادرنه إلى استانبول في ايلول 1272هـ/1855م، وفضلاً عن ذلك ادركت الدولة العثمانية ضرورة ربط الولايات بالعاصمة استانبول من خلال التلغراف، لان ذلك يؤدي إلى دعم الادارة المحلية، وتحسين كفاءتها، وتأمين الامن والاستقرار فيها:
من جهة اخرى، وبعد الثورة التي اندلعت ضد الاستعمار البريطاني في الهند سنة 1274هـ/1857م شعرت بريطانيا بأهمية إقامة خطوط اتصالات برقية سريعة مع مستعمراتها في الهند عبر اسيا الصغرى والعراق وفارس والخليج العربي.
كما هدفت من وراء ذلك ايضاً تعزيز موقعها في المنافسة الاقتصادية والسياسية مع القوى الاوربية الاخرى في المنطقة ولاسيما بعد المباشرة بتنفيذ قناة السويس من قبل المهندسين الفرنسيين، وتزايد التغلغل الروسي في بلاد فارس وحصول الروس على امتيازات تجارية فيها وخشية بريطانيا من امتداد ذلك النفوذ إلى الخليج العربي.
صدر نظام البرق والتلغراف في الدولة العثمانية سنة 1276هـ/1859م، وكان مؤلفاً من 12 فصلاً و 79 مادة وخاتمة، تم من خلالها إعطاء الأولوية لمراسلات الدولة، ثم لشؤون القناصل الاجنبية ثم التجار كما اكد ضرورة المحافظة على سرية الاتصالات، وصيانة الاسلاك والمحافظة عليها.
نجحت الدبلوماسية البريطانية سنة 1278هـ/1861م في اقناع الدولة العثمانية بمد الخطوط البرقية عبر اراضيها، وبالفعل فقد جرى افتتاح الخط البرقي الممتد بين بغداد واستانبول في حزيران سنة 1278هـ/1861م. ثم توصلت الحكومتان العثمانية البريطانية سنة 1280هـ/1863م إلى اتفاق تعهدت الحكومة البريطانية بموجبه مد خطين للبرق فوق الاراضي العراقية وعلى نفقتها الخاصة الخط الاول بين بغداد وخانقين ومنها إلى كرمنشاه، وطهران ثم إلى ميناء بوشهر على الخليج العربي حيث ترتبط بخطوط الاتصال البرقي مع الهند. وجرى افتتاحه سنة 1281هـ/1864م، أما الخط الثاني فيمتد بين البصرة والفاو ثم فيما بعد إلى القرنة ليتفرع منها إلى فرعين يمتد الاول من القرنة إلى بغداد حيث يرتبط بخط البرق عبر كركوك واربيل ونصيبين وماردين وديار بكر ثم إلى استانبول. فيما يمتد الخط الاخر من القرنة إلى بغداد عبر مدن الفرات ماراً بسوق الشيوخ والسماوة والديوانية والحلة ومنها إلى بغداد.
وفي سنة 1281هـ/1861م تم عقد اتفاقية اخرى بين الحكومتين العثمانية والبريطانية حلت محل اتفاقية 1280هـ/1863م وقد نصت الاتفاقية الجديدة على ان تقوم الحكومتان بانشاء الاسلاك البرقية وصيانتها على نفقة كل منها، وبموجب هذه الاتفاقية تم انشاء مكتب برق عثماني – بريطاني مشترك عند منطقة الفاو يعمل طيلة الـ (24) ساعة وكانت هناك هيئتان لادارة الاتصالات البرقية (التلغراف) احداهما انكليزية والاخرى عثمانية، وكانت الدولة العثمانية تعتمد على الموظفين الاجانب في ادارة الهيئة العثمانية، حتى تم تأسيس مدارس لاعداد ملاك عثماني وتم الاستغناء عن الأجانب بعد سنة 1293هـ/1876م كما تقرر انشاء مكتب في استانبول لارسال البرقيات الهندية يديره موظفون عثمانيون حيث يتم إرسال البرقيات إلى الهند اما عن طريق الفاو أو عن طريق خانقين، كما حددت الاتفاقية المذكورة تعريفه ارسال البرقيات، فيما خولت الحكومة العثمانية حق تعيين ممثل لها في مكتب البرق الرئيس في الهند، وتعهدت الحكومة البريطانية بتعيين مبعوث يقيم في استانبول. وفي سنة 1282هـ/1865م اكتمل الخط بين الهند واوربا وارسلت بنجاح اول برقية من منطقة الاتصال النهائية بالقرب من القرنة إلى الهند. كما شهدت السنة نفسها تأسيس دائرة للبرق في بغداد.
ادرك مدحت باشا بعد تسلمه مهام عمله اهمية الاتصالات البرقية في الحياة السياسية والاقتصادية، لذلك فقد بذل جهودا حثيثة للتوسع في هذه الخدمة وجعل بغداد مقرا للخدمة البرقية التي تربطها بالعاصمة استانبول من جهة والمدن العراقية من جهة أخرى، كما استمرت عملية مد الاسلاك البرقية بين بغداد وباقي المدن والقصبات العراقية مثل بعقوبة وكربلاء والنجف والديوانية والكوت ومندلي وبدرة وشهربان (المقدادية) والدليم وهيت وعنة. ومع حلول سنة 1318هـ/1900م كان مجموع خطوط البرق في ولاية بغداد فقط 1240كلم.
اما في ولاية الموصل فقد كانت هناك خطوط اتصالات برقية عديدة شملت العديد من النواحي والاقضية فقد كان هناك خطان من أربيل يمتد الأول نحو حدود فارس عبر راوندوز إلى رانية ثم قلعة دزة، كما كانت هناك خطوط بين الموصل وسنجار، والموصل والعمادية والموصل وعقرة.
اقتصرت الخدمات البرقية في بادئ الامر على الدوائر الا ان الاهالي سرعان ما ادركوا اهميتها فصاروا يستخدمونها في رفع الشكاوى إلى الجهات العليا في استانبول.
افادت الشركات التجارية والتجار العراقيون من الخدمات البرقية على نطاق واسع في المعاملات التجارية في الداخل والخارج وساهمت تلك الخدمات الى حدٍ كبير في تطوير تجارة القطر وتوسيع وتسهيل عمليات الصفقات التجارية الداخلية منها والخارجية من جهة أخرى كان للاتصالات البرقية دور في تدعيم السيطرة الحكومية وفي تغلغلها في المناطق النائية في العراق، فصار في وسع الحكومة حشد القوات العسكرية وتوجيهها إلى أي منطقة بسهولة ووقت اقصر، لهذا كانت العشائر تنظر إلى اسلاك البرق نظرة عداء وريبة، فلا يكادون يعلنون عداءهم للحكومة حتى يسارعون إلى قطع اسلاك البرق.
اما فيما يتعلق بالاجور الخاصة بالاتصالات البرقية بين الولايات فقد جرى تحديدها حسب المسافة إذ كانت الاجرة بين ولاية بغداد وولاية الموصل وديار بكر وحلب ودمشق واطنة وارضروم (15) قرشا عن كل عشرين كلمة، وقد تصل إلى (70) قرشا عن كل عشرين كلمة للولايات البعيدة كولاية البوسنة في حين كانت اجرة البرقية المؤلفة من (15) كلمة والمرسلة من البصرة إلى استانبول (25) قرشا ويبدو ان هذه الاجور كانت مرتفعة بالقياس للظروف المعاشية التي عاشها السكان ابان هذه المرحلة، وفي الوقت نفسه لم ترق هذه التسعيرة للشركات الاجنبية العاملة في منطقة الخليج العربي، إذ انها طالبت باجراء تغيير عليها، وقد لقي هذا الطلب تأييد من (اللجنة العليا للتلغراف الاوربي) التي وافقت على اجراء تخفيض في اجور الاتصالات البرقية سنة1320 هـ/ 1902م، أعقبه تخفيض أخر سنة1323 هـ/ 1905 م تبعه أخر سنة1327 هـ/ 1909 م وبنسبة 50%.
جرت محاولات عديدة لتنظيم شؤون البرق، نخص منها بالذكر قانون تنظيم نظارة البريد والتلغراف سنة 1916، حيث عنيت مواد هذا القانون بتحديد أصناف المأمورين ومرتباتهم واصول تعيينهم وتقاعدهم، وكيفية قيامهم باعمالهم.
عن رسالة: الخدمات العامة في العراق 1869-1918.