علي حسين
لم يكن محسن العزاوي الذي رحل عن عالمنا قبل ايام من الاصدقاء المقربين، فهو اكبر مني بسنوات عديدة، ولكني عرفته عن قرب منذ نهاية السبعينيات، كنت آنذاك اخطو خطواتي الاولى في عالم المسرح، وكان هو نجما لامعا في مجال الاخراج المسرحي والتمثيل التلفزيوني،
في تلك السنوات كنت شابا متحمسا لجيل الشباب،. اللقاء الاول مع محسن العزاوي كان غريبا اتذكر انني انتقدت اداءه في احدى المسرحيات التي مثلها، ونشرت موضوعا يحمل قسطا من القسوة ونزق الشباب في مجلة " الثقافة " اهاجم به طريقته في الاداء المسرحي، قبل هذا الصدام بسنوات شاهدت محسن العزاوي للمرة الاولى ممثلا في مسرحية " البيك والسايق " التي اعدها صادق الصائغ عن مسرحية بريشت الشهيرة " بونتيلا وتابعه ماتي ". كنت مراهقا مهوسا بالمسرح، اجد متعتي في قراءة المسرحيات واذهب مع الاصدقاء لمشاهدة عروض فرقة المسرح الفني الحديث، فهمي للمسرح متواضع، حيث كنت احصر النص المسرحي في مربع اضلاعه بريشت وشكسبير ونعمان عاشور ويوسف العاني، كان ذلك قبل ان اكتشف تشيخوف وابسن ومعهم ساحر الكتابة المسرحية جان أنوي.
كان اللقاء الاول بين شاب يجرب حظه في النقد المسرحي، وفنان جرب كل انواع الفنون تمثيل واخراج وكتابة ودراسة اكاديمية، عندما صادفته وجها لوجه في الطابق المخصص لمديرية المسارح كنت اتوقع ان يثور بوجهي كعادة الذين يتطيرون من النقد ويعدونه استهدافا شخصيا، لكن المفاجأة ان محسن العزاوي دعاني لنشرب الشاي في كافتيريا السينما والمسرح، لنبدأ حوارا تحول فيما بعد الى صداقة لم تنقطع حتى لحظة مرضه الاخير.
كان العزاوي يتحدث وانا انظر اليه، فاجد نفسي امام رجل رجل هادئ ذو عينين يقظتين وعقل مليء بالأحلام، ووجه يحمل معه الطيبة.. يتحدث بثقة وإذا تحدث فإن حديثه أشبه بشلالٍ هادر،.. يرى العالم من خلال نصوص مسرحية تستفزه فيحولها الى عروض على الخشبة. شخصية امتزجت فيها حكايات التراث بألغاز أجاثا كريستي، بغرائبية طه سالم، بثورية محمود دياب التي غلفها بشعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، تستفزه المسرحية المحكمة الصنعة.
المسرح بالنسبة إليه مساحة لكشف تناقضات الحياة الاجتماعية، حيث في مسرحه يتشابك البحث عن العدل مع الإصرار على إشاعة مفهوم النضال بشقّيه الثوري والإنساني.. يفهم المسرح على انه تصوير لقضايا الانسان وترجمة لفترات العناء والدهشة.. فنان مهووس بالكلمات التي تتحول بين يديه الى صور مستفزة لعين المشاهد.
في معظم عروضه المسرحية التي تابعتها كان محسن العزاوي مصرّاً على ان يقدم نظرته الخاصة، وهي نظرة تجمع ما بين فنون الفرجة الموجودة في التراث العربي، وأساليب المسرح الحديث التي تؤكد على دور الممثل باعتباره صانعاً للعرض المسرحي. ولهذا نجد محسن العزاوي فيما بعد يحاول ان يشق طريقه برؤيته التي يسعى من خلالها الى ايجاد مسرح عربي يلعب فيه التراث عنصر التوصيل، الأمر الذي يسهم في تأكيد ما ذهب اليه في معظم مسرحياته فيما بعد، والتي مزج فيها بين منطق الحكاية الشعبية والمسرح الحديث بكل تقنياته.
ظل محسن العزاوي على مدى أكثر من أربعين عاماً يسعى الى مسرحٍ مختلفٍ.. مسرح بغايات وأهداف اجتماعية، دون ان يتحول الى منبر دعاية لأنه سيفقد وظيفته الحقيقية.. المسرح بالنسبة له مدعاة للألم والفرح وهو يعيش من خلاله صراعاً دائماً مع العالم الذي تستدعيه مخيلته.. فهو يريد مسرحاً يقدم التفاصيل الصغيرة التي تمنحنا الأفكار مثلما تمنحنا المتعة، مسرحاً يقدم لنا الجمال ورائحة الناس وهمومهم. هذا اذن هو المخرج القدير، الذي تحول فيما بعد الى صديق عزيز، المخرج الذي نستطيع ان نضع وصفاً محدوداً واضح المعالم لمنهجه ومنظومته الفكرية ولنوع القضايا التي لامسها طوال عمر إبداعه فنياً وفكرياً، منذ"طنطل"طه سالم ومرورا بـ نديم عادل كاظم ومجالس قاسم محمد، ونشيد بدري حسون فريد ومعالي يوسف العاني وعشرات الاعمال التي وضعتنا وجهاً لوجه أمام مخرج همه واهتمامه قضايا الناس أياً كانت درجة اتفاقنا واختلافنا مع المنهج والزاوية التي يقترب بها من هموم الناس، مخرج يرى أن قيمة المخرج الواقعي الحديث تكمن في قدرته على عكس المظهر في استمرار الحياة الواقعية بشكل فني جميل ومؤثر. ربما من الصعب،في أسطر قليلة كهذه، ان أقدم من خلالها صورة لمخرج يعدّ واحداً من أبرز مخرجي المسرح العراقي.. لكنها سطور اكتبها وفاءً لفنان وصديق حاول ان يؤدي رسالته الفنية والاجتماعية لبلاده.
محسن العزاوي الفنان والانسان يرحل عنا تاركا احلامه ومنجزه الكبير، مفارقا عالمنا الذي تنكر له في سنواته الاخيرة، مخلفا لمحبيه وحشة الفقد ولوعة الحزن والفراق