قم فالبلاد على شفا الطوفان..عبدالغني الخليلي.. الأديب الذي كابد الغربة وظلم الطغاة

قم فالبلاد على شفا الطوفان..عبدالغني الخليلي.. الأديب الذي كابد الغربة وظلم الطغاة

محمـد الكحط

الحديث عن الأديب الفقيد عبد الغني الخليلي ذو شجون، فهو كنز فقدناه، لكنه ترك أثراً وإرثاً كبيرين في المجالين الإنساني والثقافي، إنه ابن النجف التي ولد على أديمها عام 1925، وفيها نهل من منابع الثقافة، حين كانت النجف –آنذاك - في خضم حركة ثقافية زاهية، حيث أمضى طفولته بين أفياء تلك البساتين بصحبة مجموعة من أدباء المدينة، كان من بينهم خال أبي الميرزا محمود الخليلي، والشيخ جواد الشبيبي، وحيدر الحلي، وجعفر الحلي، ورضا الموسوي، وباقر الهندي، والشيخ هادي كاشف الغطاء، وغيرهم.

في أواسط الأربعينيات غادر النجف إلى بغداد، حيث مارس مهنة التعليم في مدرسة بالكاظمية، لكنه سرعان ما فصل منها بسبب نشاطه السياسي وعاد إلى النجف، ليعود بعد سنوات إلى بغداد ليعمل في مطبعة الزهراء، التي التي كانت ملكاً لعمه، بعدها بعامين انتقل للعمل في البنك اللبناني المتحد، ثم في مصرف الرافدين ببغداد حتى عام 1976، وبعد اثنين وعشرين عاماً من عمله في البنك أحال الخليلي نفسه الى التقاعد ليتفرغ للكتابة‭.‬

تهجير ظالم

بدأ عبد الغني الخليلي مرحلة جديدة من الإبداع دوّن فيها ذكرياته، لحين تهجيره وعائلته، التي يقول عنها‭: ‬في أواخر السبعينيات بلغ ما كتبته ألفي صفحة‭. ‬ثم جاءت عملية التهجير الظالمة فاستولى الجلاوزة على البيت وما فيه من كتب ومن ذكريات مدونة على الورق‭.

كان الخليلي مولعاً منذ صغره بكتابة الرسائل، وأجاد فنها، فكان يراسل شخصيات ثقافية وأدبية عربية وعراقية، منهم‭: ‬الشاعرة مي زيادة، وبشارة الخوري، ومارون عبود، وبدوي الجبل، والحبوبي، والجعفري، والوائلي، والهاشمي، وغيرهم‭. ‬وكان يحتفظ بصندوق مليء بتلك الرسائل‭.‬

وكما معروف عنه أنه نظم الشعر وهو دون العشرين من عمره، ونشر العديد من قصائده في وقت مبكر، وقد درس تراث ابن عربي والمتنبي وحافظ ابراهيم، فهو ابن اسرة الخليلي المعروفة، ومن هذه العائلة القاص جعفر الخليلي والشاعر عباس الخليلي وغيرهما من الرموز الثقافية‭. ‬

مع الجواهري

ارتبط الخليلي ثقافياً مع الحركة الوطنية العراقية منذ صباه، حاله حال أبناء جيله، فكتب العديد من المواد في مجلة‭ "‬الثقافة الجديدة‭" ‬التي كانت منبراً فكرياً مهماً، فقد أحب الشعر مبكراً، بل قرأ لأهم الشعراء، فقد قرأ للمتنبي وأحب ابن عربي، ويقال إنه حفظ ديواناً كاملاً للجواهري، إذ كانت تربطهما معاً علاقة خاصة، عن هذه العلاقة يقول:‬علاقتي بالجواهري قديمة، فعائلتانا كانتا متجاورتين، أذكر محمد الجواهري عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، كنت أزور عمي الطبيب محمد الخليلي، حيث كان يقيم في الكوفة، وكان الجواهري يعمل أستاذاً للأدب العربي في ثانوية النجف، وكان بيت عمي مرتاد الأدباء والشعراء النجفيين وغيرهم‭.

وقد كتب الشاعر محمد مهدي الجواهري قصيدة خصه بها وهي منشورة في المجلد الرابع من ديوانه، وكانت قد نشرت في جريدة‭ "‬اليوم‭" ‬اللبنانية بتاريخ 27‭/‬2‭/‬1968، وفيها يقول الجواهري‭:‬

‭أبا الفرسان إنك في ضميري

وذاك أعز دار للحبيبِ

وبي شوق إليك يهز قلبي

ويعصره فيخفق بالوجيبِ

وذكرك في فمي نغم مصفى

يرتّل في الشروق وفي الغروبِ

سلام الله يعبق بالطيوب

على ربعِ تحل به خصيبِ

ثري بالمفاخر والمزايا

توارثها نجيب عن نجيب

أبا الفرسان إن عقّت ديار

عقدت بها شبابي بالمشيب

وذوّبت الضلوع على ثراها

ولم أطلب بها أجر المذيب

فلا عجب فقلبي ضاق ذرعاً

بخير الناس أحمد والحبيب

فذياك استبيح دماً وعِرضاً

وذاك قضى بها نحب الغريب

وسيم البحتري الهون فيها

وغصّ بحسرة الترب الحريب

على حين استباح الغرّ فيها

بقايا السيف والسلب الجليب

أبا الفرسان لاعجب بأنا

نؤدي فدية البلد العجيب‭

لقد كان لجريمة التهجير السيئة الذكر إلى إيران، بحجة التبعية الإيرانية، أثرها ووقعها الكبيرين على حياته، وصفها في كتاباته لاحقاً، ولربما أشد ما يحزننا، ونحن نقرأ، وصفه مسيره بين الأدغال حاملاً أمه على ظهره، وكيف كانت تعاني وإياه من الجوع والعطش، سوى جرعات من ماء المطر، فيقول‭: ‬كنت أغرفه لها بيدي فتشرب‭.. ‬وبينما كنت أبحث لها عن أعشاب ندية في مساكب الخضرة يمكنها أن تسد بها جوعها، عثرت على الخباز البري‭. ‬وحين عرفت أنها تعجز عن مضغه، رحت أمضغه لها وأدسه في فمها‭. ‬هذه صورة واحدة من ملايين الصور التي تعكس معاناة آلاف العراقيين الذين هجّرهم نظام صدام المجرم عنوة بدون ذنب‭. ‬ولم تتحمل أمه تلك الظروف فتوفيت ودفنت بعيداً عن مدينتها النجف‭.‬

وكتب عنها رسالة رثاء مؤثرة بعنوان‭ (‬إلى أم عبد الغني‭)، كما كانت تسمى، وهذا الرثاء خطه فيما بعد الشاعر والخطاط الفقيد محمد سعيد الصكار بخطٍ جميل‭.‬

الهجرة الثانية

بعد معاناة طويلة في إيران، شدّ عبد الغني الخليلي الرحال واختار العيش في السويد في آخر أيام حياته‭. ‬وفي ستوكهولم، حيث مقر إقامته، كان له نشاط اجتماعي وإبداعي أدبي، محوره الأساسي مراسلاته الأدبية من خلال علاقاته المتشعبة مع العديد من الرموز الأدبية والثقافية العراقية، لكنه لم يكن يفكر في التأليف والنشر لولا التشجيع والحث من قبل بعض زملائه، فقد خضع في الأخير لرغباتهم فقام بجمع بعض نتاجاته وأصدر منها الجزء الأول من كتابه‭ (‬سلاماً يا غريب‭)، ومن ثم نشرت له‭ "‬دار المدى‭" ‬الجزء الثاني‭. ‬كما كان متابعاً جيداً للنتاجات والنشاطات الثقافية في السويد، حيث كانت الأوضاع في العراق حافلة بالأحداث السياسية، وكان يسهم بالحضور وبث روح التفاؤل والأمل بين الجميع‭.‬

في إحدى رسائله الى الأستاذ ثائر صالح، صديق ابنه فارس، نشعر مرارة الغربة حيث يقارنها بالأيام المضنية في العراق‭. ‬

يقول:‬أمس مررت‭ – ‬وأنا في طريقي الى البريد‭ – ‬بحي قديم مهجور، يسرح الحمام على أرضه، مطمئناً، فترامى إليَّ صوت عجلات مطبعة تدور، وكنت قد ألفت هذا الصوت منذ صغري، فوقفت أستزيد منه، ففي صداه تسكن طفولتي، وذكريات مجلات نجفية كانت تطبع في مثل هذه المطبعة، وكنت مولعاً بقراءتها‭. ‬كم تمنيت، لو يتيح ليَ صاحب هذه المطبعة فرصة العمل عنده مجانا ولو لساعات قليلة، لأعيش تلك الأيام التي قضيتها عاملاً في إحدى مطابع النجف، وأنا في الثانية عشرة من عمري، وفي هذا المنفى البعيد صرت أحلم بذكريات ذلك العمر وأنا كنت قد شقيت به‭.‬

كتب له الشاعر العراقي خلدون جاويد هذه الأبيات ، إذ ربطتهما علاقة صداقة طيبة‭:‬

قم ياغني الليل زائل

والسجن حُطم والسلاسل

ولربما المنفى الكسير

إلى المزار الأُم راحل

قم ياغني لعلنا

متنسمين هواء بابل

وعسى الجنائن أورقت فرحاً

وغرّدت البلابل

قم ياغني لنحتفي

بك كالأزاهر بالجداول

قم فالبلاد على شفا الطوفان

تجرف كل قاتل

قم ياغني لنغتني بك

بالمنابع بالمناهل

يابن الفرات الفذ لا

تذبل فما الجوري ذابل

يازهرة النجف المنيف

أريجك العلوي حافل

ياغصن أجمل كربلا

في الكون يانفح الخمائل

قم يابن أزهى كعبة للعلم

يالغة الفطاحل‭.‬

مجزرة في الجنوب

يقول عن أسباب عدم نشر أعماله ومذكراته‭: ‬ما كتبته لم يكن لتسمح به الرقابة، إذ أن كتاباتي لا تخلو من السياسة والإشارة الى الاضطهاد الذي كان يعانيه الشعب من الحكم الملكي آنذاك‭. ‬اتذكر وأنا في الثانية عشرة من عمري، وربما اكثر بقليل، عندما خرجت من بيتي في حي العمارة الى صحن الإمام علي كرم الله وجهه فوجدت الصحن غابة من الجنائز، صفوفاً ممتدة حتى باب السلام، ثم ذهبت الى والدي فوجدت عنده علي الشرقي وابراهيم الوائلي والزعيم عجمي أبو كلل يتحدثون عن مجزرة في الجنوب، في أطراف الرميثة، قام بها رشيد عالي الكيلاني‭. ‬وهذه الجنائز كانت ضحايا المجزرة، كان من بينهم مئات الأطفال‭. ‬هذه الحادثة دونتها، وهي ما زالت تثير الرعب في نفسي كلما تذكرتها‭. ‬وأنت تعرف أن هذه وأمثالها كثير ترعب السلطة الحاكمة آنذاك‭.

غادرنا عبد الغني الخليلي يوم الجمعة، الخامس عشر من تشرين الثاني عام 2002م، محمولاً على الأكتاف إلى مقبرة في شمالي ستوكهولم، تقع قرب سكني، يرقد بسلام تحيط به الزهور والسهوب الخضر على ضفة بحيرة جميلة، يرقد هادئاً بسلام حاملاً معه ذكرياته وآلامه وأحلامه‭....

في الأول من تموز 1996 يكتب الى أحد أصدقائه،‭ ((‬أترى نعود إلى بغداد؟ ومن جديد نألف مقاهينا الحبيبة، وأحبة لنا فيها، وننسى ما كابدنا في الغربة:

ونحن، يا ترى هل سنعود إلى بغداد ونعيش ما تبقى من العمر في كنفها‭… ‬؟؟

وأقصد تلك بغداد التي ألفناها، والتي كانت‭..

توجهنا الى ابنه الدكتور فارس الخليلي مستفسرين عن مصير أرشيف الوالد الإبداعي الأدبي، إذ ترك الوالد نتاجاً إبداعياً لم ير النور، وهنالك العديد من المراسلات الأدبية، والكتب والتعليقات والصور وهي تمثل أرشيفاً لحياة الفقيد الخليلي، وعلمنا أن هنالك كتابات ومكتبة تحوي مصادر مهمة مع أرشيف الفقيد ما زالت موجودة‭…‬

ونقول‭: ‬متى يعود العراق معافى ليستذكر أبناءه البررة ومبدعيه ممن تعرضوا للظلم والاضطهاد، وتجرعوا مرارة الغربة مرغمين على ذلك، ومتى تهتم دولتنا بجمع نتاجات من فقدناهم في الشتات، لنعيد الاعتبار لهم باسم الوطن الذي أحبوه وتغنوا به وعاش في أفئدتهم‭…‬وتحملوا عناء ذلك الحب‭…‬

متى‭…. ‬؟؟؟