عبد الغني الخليلي: سلاماً يا حَبيب!

عبد الغني الخليلي: سلاماً يا حَبيب!

د. جليل العطية

[ أيها الخلّ الخليليّ الذي يُعشب قلبي كلما اقرأ

ما يكتب، أو أسمع ما يروي: سلاماً! قدر ما

كان من البرحي في جنّتنا البصرة يوماً، قدر

أحزاني وأفراح الندى النائم في جمبدة الجوريّ في

بغداد، والأصداء تنداح مع الريح إلى الروح من

الحضرة في فجر الغريّ الأخضر الفاتن، برداً

وسلاماً.

محمد سعيد الصـكـار

ولد (عبد الغني بن حميد بن إسماعيل بن علي الخليلي) في مدينة النجف، ويعود نسبه إلى (آل الخليلي) وهي من الأسر النجفية العلمية والأدبية البارزة التي استوطنت مدينة الأمام علي – أواسط القرن الثالث عشر وجدها الأعلى الخليل الرازي المؤسس لكيان هذه الأٍسرة.

وقد نبغ فيها مشاهير في العلم والطب والأدب والشعر والصحافة لعبوا دوراً مهماً في النجف كان أبرزهم (حسين الخليلي) الذي تزعّم مرجعية الشيعة في النجف بدايات القرن العشرين ومحمود الخليلي شيخ أطباء العراق قاطبة كما يؤكد (جعفر محبوبة).

وسطع في سماء الأدب العراقي (جعفر الخليلي) أحد رواد القصة وصاحب جرائد الفجر الصادق والراعي والهاتف ومؤلف (هكذا عرفتهم).

- نشأ عبد الغني في أفياء الأسرة الخليلية وكنفها مّما ساهم في نمو وتفتح موهبته الشعرية وقريحته الأدبية بصورة مبكرة وساعدته دراسته في المدارس الرسمية قبل استقراره كطالب علوم دينية في مدرسة الخليلي الكبرى وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة بعد، حيث تلقى علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والبلاغة على يد أساتذة كبار كحسين مروة [ 1908 – 1987 م] ونوري الجزائري ومحمد جمال الهاشمي ومحمد تقي الخليلي وتحت تأثيرهم عشق القراءة، قرأ دواوين الشعر ومال إلى افتراس الكتب الأدبية والمجلات المتيسرة في مكتبة مدرسة الخليلي وما يحمله الطلاب والاساتذة العرب والأجانب من كتب فكرية وتقدمية وما توفره جمعية الرابطة الأدبية التي نال عضويتها.

- استهوى الخليلي الأدب وجال في عوالمه وكذلك الشعر بعد أن درس العروض والأوزان وحفظ الكثير من غرر القصائد لكنه لم يكتف بالشعر القديم بل أطلّع على الشعر الحديث، وكان الشعر في النجف لا يتجاوز قضية الطف واستشهاد الأمام الحسين لكن عبد الغني تجاوز إلى هموم الوطن العربي وقضية فلسطين وسعى إلى تطوير تلك المفاهيم بالتعاون مع كوكبة من الشعراء بينهم محمود الحبوبي (ت 1969) وعبد الرزاق محيي الدين (ت 1982) ومصطفى جمال الدين (ت 1996) الذي نظم معه قصيدة مشتركة أوحتها لهما جلسة شاعرية على شط الكوفة في مساء حالم.

بدأ عبد الغني في العشرين من عمره يكتب خواطره وشعره فجاءت قصائده متسمة بالصدق والدفء كما يؤكد (فائق محمد حسين الخليلي) وشعره يحفل بمفردات الريف العراقي بخضرته ونداه.

- وفي أربعينات القرن الماضي أخذت قصائده تتسلق صحف بغداد ومجلات النجف وفي مقدمتها جريدة الهاتف وراح يدير الندوات ويساهم في المنتديات الثقافية في النجف.

وعبد الغني الخليلي هاوٍ للكتب واقتناء النادر منها فجمع مكتبة عامرة نقلها لاحقاً إلى بغداد، وله توثيق (أرشيف) حافل يزخر بالنوادر الأدبية، ولم يقتصر نشاط الخليلي على الجانب الأدبي فتعداه إلى العمل الوطني والمشاركة في التظاهرات الوطنية.

- وفي بداية سنوات الخمسين وأثر قبول شقيقه الشاعر (علي) في كلية الحقوق استقرت الأسرة في بغداد، وهناك انفتحت للخليلي مجالات أكثر اتساعاً، فارتبط بعلاقات صداقة حميمة مع ألمع الشعراء كالجواهري والسياب والبياتي وسعدي يوسف والمع الآساتذة كابراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ثم آخرون من بينهم الروائي غائب طعمة فرمان والخطاط الشاعر محمد سعيد الصكار وغيرهم وفي هذه الفترة التحق بوظائف إدارية فشغل منصب مدير البنك اللبناني المتحد في بغداد وأثر عملية تاميم النفط (1972) عين مديراً لمصرف الرافدين في بغداد ولا شك أن هذه الوظائف قلّصت من نشاطه الأدبي والفكري لكنه بقي مثابراً على الكتابة في الصحف.. كما بقي على صلة بالقوى الوطنية اليسارية فتعرض إلى المضايقات وما أن اشتعلت الحرب العراقية – الايرانية [ 1980 – 1988] حتى عمدت السلطة إلى تهجير الألوف من العراقيين إلى إيران بدعوى عدم امتلاكهم الوثائق العثمانية.

وفي نيسان 1980 تم تهجير العشرات من آل الخليلي في النجف وبغداد وانتزعت السلطة ممتلكاتهم وأوراقهم الثبوتية وهدمت مدارسهم الثلاث في النجف وأزالت حتى مقابرهم، وشمل التهجير عبد الغني وأمه العجوز، قّذف بهم على الحدود في رحلة مريرة حزينة أجبر خلالها (عبد الغني) على حمل أمه المريضة لثلاثة أيام متتالية بعد أن تعمد حرس السلطة إرسالهم في طريق خاطئ ليضاعفوا عذابهم.. راح عبد الغني يمشي وأمه على ظهره يطوي بها الفيافي والصحارى وهم جياع ولقد توفيت أُمه بعد وصولهم، ودفنها بمدينة شيراز... وبقي (عبد الغني) في المخيم المخصص للمهجرين في إيران حتى 1983 حيث هاجر إلى السويد ملتحقاً بولديه الهاربين من البطش وكانا قد نالا اللجوء قبله ثم انتقلا لاحقاً إلى استراليا..

- على الرغم من المرض الذي أصاب عينيه واطفأ إحداهما ومع شواغل الحياة وهمومها وعلى الرغم من فجيعته بفقد شقيقه (علي) بين يديه كان (عبد الغني) يتطلع إلى العودة للوطن ويتشوق إلى مكتبته ليمارس الكتابة مستعيناّ بذاكرته فنشر العديد من المقالات في الصحف والمجلات واحتفت به الأوساط الثقافية وأصدر كتابين يحملان عنوان (سلاماً يا غريب) صدر أحدهما عن دار المنفى بالسويد والثاني عن دار المدى بدمشق.

ورحل في تشرين الثاني 2002 م إلى جوار ربه ودفن في ستوكهولم إلى جوار قبر أخيه (علي) والمحزن أنه خذل محبيه فلم ينتظر عاماً وبعض عام لسقوط الدكتاتورية، فيعود إلى بيته ومكتبته ومحبيه.

: سمعت اسمه أول مرة من الشاعر عبد الامير الحصيري [ 1943 – 1978] قال: أتدرون: هناك شاعران نجفيان يعشقان الشعر والحياة والحب؟

- من هما يا أمير؟

- علي وعبد الغني الخليلي

كان الحصيري – الشاعر المتشرد – في كامل وعيه، بل كان أنيقاً يجلس في زاوية بمقهى البرلمان في بغداد يحيط به ثلاثة أو أربعة من مريديه أعرف منهم " خالد يوسف إسماعيل " (من شعراء الستينات) وقبل أن أترك المقهى قال الحصيري وهو يسحب نفساً من (الناركيله):

- أعترف أنهما كريمان، يقدمان لي عوناً مادياً من حين لآخر.. قال هذا في لثغته المتميزة.

- لم اسأل عن سر أناقة الحصيري ذلك الصباح لانني أعرف انها مؤقتة.

- التقيت (الخليلي) وجها لوجه في مكتبة المثنى الواقعة في شارع المتنبي ببغداد ذات صباح شتوي – عرفني به الكتبي قاسم محمد الرجب [ 1917 – 1974] صاحب المكتبة، ناداني قائلاً:

تعال يا جليل وانظر: نجفي يبحث عن دواوين الشعر الحر..

أجبته بهدوء: ما الضير في الاطلاع يا أبا محمد؟

سرّ (عبد الغني) وصافحني لننتقل إلى مقهى (حسن العجمي) الكائن في شارع الرشيد.. تبادلنا الحديث في جو من الالفة ووجدنا مشتركات كثيرة بيننا على الرغم من الغيوم واختلاف وجهات النظر، ثم التقينا غير مرة في مقر جمعية الرابطة الأدبية في النجف بمناسبات عديدة، كان إسهامه قليلاً لكنه يلفت النظر خاصة إذا ارتجل الشعر، ثم غادرت العراق وانقطعت صلتنا حتى هبطت علينا الحرب العراقية – الايرانية وذيولها وكوارثها.. فوجئت ذات يوم برسالة من العلامة الاردني (روكس بن زائد العزيزي) يفجعني فيها بما جرى لآل الخليلي وعدة أسر في النجف من تهجير شمل جعفر الخليلي وحشداً من أسرته الكريمة شمل (علي وعبد الغني).

أبعد آل الخليلي إلى إيران بدعوى " التبعية ".. رحت اتقصى مكان تواجدهما حتى بلغني أنهما استقرا في (السويد) وتم الاتصال بهما، بعد جهد وعناء، اتصلت بعبد الغني فسرّ وابتهج ولمست انه على الرغم من الاجهاد والتعب لا يزال يتمتع بمعنويات عالية.. كان ذلك المحب للناس، العاشق للحياة لكنه مقل في كتابة الشعر كما أخبرني في زيارته باريس 1994 التي كانت عشقه الثاني بعد (بغداد – النجف) – ظللنا على اتصال عبر وسائل الاتصال، وأذكر أنه اتحفني بمجموعة مصورات لمجلة (الاعتدال) النجفية التي كان يصدرها (محمد علي البلاغي) [ 1913 – 1976]، ولا أريد أن أطيل، اكتفي بادراج رسائله التي انفذها اليّ ولم تنشر من قبل فهي تشي بالكثير الكثير عن الخليلي الرائع.

- تسلمت منه ثلاث بطاقات انيقات واحدة منهن تحمل صورة ديك رائع، شعره ملون وهو يصدح: البطاقة الثانية تحمل صورة ورود حمر في حقل شاسع، البطاقة الثالثة تحمل صورة طائر كبير يقف على عش جميل في ضفاف بحر: أدناه نص الرسالة المكتوبة على هذه البطاقات الجميلة.

أخي العزيز الدكتور العطية..

تحية ومودة:

بودي أن أسألك متى يرتقي هذا المؤذن المزهو بصوته وجماله المأذنة ببغداد، ومن فوقها، يعلن البشرى لأهل العراق، بطلوع فجر جديد، لا يعقبه ليل آخر أسود.. متى؟ ومتى ترحب بنا بغداد؟ هذا البستان الذي لهونا في ظله الأخضر ونحن شرخ؟.. وهناك على رحلة الشاطئ، بين النخلة وطيور الماء، نلتقي الأهل والصحب، فننسى ما كابدنا في المنافي من عذاب وحنين وننسى أننا صرنا شيوخاً علانا الشيب، ومن جديد نروح نحلم بأيام الشباب فدعوها للعودة، ولو تمر بنا طيفا يؤنسنا في وحشتنا المريرة.. ولا ندري هل تستجيب؟

اتمنى لباريس، صيفاً ينضح ضوءاً وعطراً وظلاً ناعماً، تنعم به الشقراوات في خلواتهن. وعسى أن يتركن لك منه نصيباً، يعينك برقة نسيمه وفتنة ليله – على تدوين خواطرك الجميلة وتصبح (نقطة الضوء) عندك شلالاً دافقاً.

أخي العزيز، ما أنفك صراخ الجياع في الوطن، يبلغ صداه المرعب الموحش أسماعنا، ولا أدري متى يبلغ هذا الصدى المرعب الموحش أسماع المترفين المتخمين من أبناء وطننا في الداخل والخارج فيرفعوا أًصواتهم عالية قوية، في وجه الجلاد الذي أجاع أخوتهم في الوطن.. نعذرهم.. انهم مشغولون عن هذا الصراخ بسماع أغاني (الساهر) – رسول سارقي الرغيف من فم الجياع إلى هؤلاء المترفين المتخمين.. وبالتلذذ بأغنية (بتونس فيك) للجزائرية (وردة).. لن ننسى ان اخوتنا المصريين سكنة المقابر هم مثل شعبنا جياع ومرضى، ولكن ربما بأغنية (وردة) ينسون الجوع والمرض!!

بالمناسبة بلغني أن هذا الطائر الجميل ما عاد يزور العراق، ربما أرعبه صراخ الجياع والمرض!

المحب: الخليلي – 5/7/1995

- وفي رسالة غير مؤرخة، هذا نصها:

أخي الكريم معذرة، أن الذي جرني إلى هذا الحديث المؤلم هو وصول رسالة في هذا الصباح من العراق، يشكو صاحبها فيها من الجوع والمرض اللذين سببا وفاة طفلين له. يقول فيها:

كان بيتي يرقص لمرحهما ويشرق لابتسامتهما وبموتهما غشي البيت حزن موجع مدمر. يقول في رسالته هذه الدامعة: لن أطلب منك أية معونة، وأنما أردت أن تقاسمني حزني عليهما، ويعتذر.. وهذه الرسالة ليست الوحيدة التي تصلني من الوطن، فقد وصلتني قبلها رسائل عديدة كلها دامعة، موجعة. مرة أخرى أعتذر منك، وأن كنت تتلقى مثل هذه الرسالة بين حين وحين.

المحب: الخليلي

- وفي بطاقة تحمل صورة طائر كبير، جميل كتب اليّ الرسالة التالية:

أخي العزيز الدكتور العطية

تحية عطرة برائحة ثلج الشمال

لعل ربيع باريس، دخل الحدائق والبساتين مزهواً بأزهاره وطيوره ونوافذ البيوت استقبلته فرحة، وعذارى (السين) تحررن من ثقل الشتاء البغيض، واستقبلن النسيم عذباً. لكن ربيع هذا البلد، ما زال خلف الباب، يستأذن الدخول، وربيع وطني أغلقن دونه الأبواب منذ سنين، وما زال غناؤنا له حزيناً...

تلبية لطلبك أرسل لك هذه الصور، وعسى أن أعثر على صور أخرى فأزودك بها.. ويسرني أن أعرف موعد نشر مقالاتك عن شاعرنا الجواهري الكبير في (الشرق الأوسط) لمتابعتها.

يظل الجواهري ماثلاً في ذاكرة الشعب العربي نشيداً خالداً وشامخاً في حربه على المستعمر وأذنابه، فتفضل عليّ بإشعاري بوصول الصور ولك الشكر..

- في هذا الفجر أسمع أصوات عصافير يناشدن الربيع للعودة. وانني بانتظاره..

المحب: الخليلي – 10 /4/1996

[ ملاحظة: مقالاتي عن الجواهري نشرت تحت عنوان (الجواهري شاعر القرن العشرين) في جريدة (الشرق الأوسط) ما بين 30/6/1997 و 10/7/1997]

وفي رسالة أخرى يواصل الخليلي خواطره الحزينة فيقول:

حبيبي أبا اليمامتين الوديعتين الجميلتين الدكتور العطية:

كنت أحلم أن أنسى عتمة الشتاء وبرده في هذه الديار البعيدة الغريبة بزيارة باريس وأحبة فيها وهم من أحلى الأخوان وأرقهم مستمتعاً بجمال صيفها، وبالجلوس معهم في مقاهي (الحي اللاتيني) وهناك استعيد ذكرى نهار كان غنياً بالشعر، ومشرقأً بكؤوس من نبيذ أحمر، وبحلاوة حديث الصديق الشاعر " عدنان محسن " *، الإنسان الذي (ما) فارقته براءة الطفولة، وسيظل هكذا، وان أدركه الشيب.. ولا أظن أن الشيب يجرؤ أن يمرّ به يوماً..

معذرة لك وللحبيب " عدنان "، فقد حرمتني ظروف ظالمة عن هذه الزيارة التي كنت أمنّي نفسي بها ولا بد من زيارة لها يا أحبائي مع التحية والمودة.

المحب عبد الغني

28/6/1996 – ستوكهولم

*- عن كتاب صادر عن دار المدى