مصباح أديسون يحقق أحلام البشر..أدى اكتشاف نور الكهرباء إلى التحولات الديمقراطية في الحياة الأميركية

مصباح أديسون يحقق أحلام البشر..أدى اكتشاف نور الكهرباء إلى التحولات الديمقراطية في الحياة الأميركية

محمد الخولي

تلك هي المقولة المحورية التي انطلق منها المؤلف، البروفيسور أرنست فريبيرغ، أستاذ علم التاريخ بالجامعات الأميركية في وضع مادة هذا الكتاب،

وبمعنى أن المؤلف لم يقتصر في الكتاب على مقدمات وملابسات ونتائج التوصل إلى المصباح المضاء بطاقة الكهرباء على نحو ما تعرفه حياتنا، بل إنه يعمد إلى تقصي انعكاسات هذا الكشف التاريخي الذي توصّل إليه العبقري الأميركي توماس أديسون منذ 114 سنة أو نحوها من عمر هذا الزمان الحديث، مما أدى إلى إحداث ثورة في حياة الناس في كل أرجاء الأرض، يستوي في ذلك ساكن الغابة الذي يكبس زراً صغيراً لإضاءة مصباح كهربائي بسيط ورخيص، بقدر ما يستوي مشغّلو الآلات والماكينات ووسائل النقل الضخمة والحديثة التي أصبحت تندفع بطاقة الكهرباء.

وفي معرض السيرة الشخصية، يوضح الكتاب كيف أن أديسون لم ينل أي نصيب يُذكر من التعليم النظامي في سلك المدارس بولاية "أوهايو"، حيث كانت نشأته.

ومع ذلك فقد كان يمضي الأيام والساعات الطوال عاكفاً على إجراء التجارب المعملية في مختبره العتيد بولاية "نيوجيرسي" المجاورة "لنيويورك"، ومنه أعلن اكتشافاته المدوية التي ما برحت تؤثر في حياة سكان الأرض قاطبة وكان في مقدمتها جهاز "الفونوغراف" لتسجيل الأصوات للمرة الأولى في التاريخ، وبعده "المصباح الكهربائي" الذي حلّ محل مصابيح غاز الاستصباح التي طالما ضيقت على حياة الناس سواء بتقلبات أضوائها أو لرائحة الكبريت المنبعثة منها.

ظل أهل الأرض بانتظار أن يتيسر لهم مصباح يشع بالنور ليملأ حياتهم ضياء وبشراً وحبوراً قرونا طويلة.

صحيح أنه سبق لهم على مدار قرون وأحقاب استخدام مصادر عدة لعلها تجلب لهم نوراً أو بعضاً من نور، هكذا جاء استخدامهم المشاعل والشموع إلى أن تصوروا مع أواخر القرن التاسع عشر، وربما قبل هذه الحقبة بقليل، أنهم قد نالوا المراد عندما استخدموا "غاز الاستصباح" فأضاؤوا به الشوارع والبيوت وإن ظل الأمر مقصوراً على أرستقراطية المجتمع وصفوة الموسرين.

مشكلات غاز الاستصباح

بيد أن أضواء الغاز المذكور كانت تنطوي على مشكلات، كانت معتمة بقدر ما كان يعتريها الكثير من التقلّب الذي يحمل بدوره الكثير من الخيالات والظلال، هذا فضلاً عن روائح الكبريت البغيضة التي كانت تنبعث أيامها من مصادر الغاز.

والحاصل أن كان العالم بانتظار مخاض جديد يشيع الضياء والبهجة في جنبات الكرة الأرضية على نحو ما هو حاصل في حياتنا المعاصرة.

المهم أن ظل مسرح الانتظار خالياً إلى أن دخله ذلك الأميركي العجيب الذي كان يبلغ من العمر، وقت اللحظة الحاسمة 32 سنة. وقد حانت اللحظة الفاصلة في عام 1879، عندما أهدى العقل الإنساني إلى شعوب العالم "مصباحاً"، وهو أول مصباح كهربائي في التاريخ.

كانت الهدية من إبداع بطل الأحداث في الكتاب الذي نعايش فصوله في هذه السطور. توماس ألفا أديسون مكتشف الكهرباء في شكلها الراهن، ومخترع مصباح الكهرباء الأولى المبسط وهو الجد الأعلى أو السلف - كما قد نسميه - لكل مصادر النور والطاقة الضوئية في حياتنا المعاصرة.

أديسون الإنسان

ربما تتبادر إلى الذهن صورة توماس أديسون بوصفه عبقرياً من طراز أينشتاين مثلاً، بمعنى العالِم الجهبذ والمفكر الموسوعي الذي يرتبط باسمه وبتحصيله العلمي سنوات طويلة من الدراسة ومصفوفة من الشهادات والأوسمة ودرجات الماجستير والدكتوراه شأن عباقرة العلماء والمفكرين. لكن الحقيقة على خلاف هذا كله.

كتابنا الذي يعرض لسيرة (أبو المصباح الكهربائي) يقول لنا إن أديسون لم ينل من حظوظ التعليم النظامي في بلاده إلا ثلاثة أشهر، نعم ثلاثة أشهر أمضاها ملتحقاً بمدرسة ابتدائية شبه منسية في مسقط رأسه بولاية "أوهايو" بالولايات المتحدة.

أكثر من هـــــــــذا، يوضح لنا هذا الكتاب كيف أصيب أديسون بعاهة الصمم التي ظلت تشتد وطأتها كما يضيف مؤلفنا - كلما امتد العمر بالرجل الذي رحل عن الحياة عام 1931 وكان وقتها في سن الرابعة والثمانين.

ثم يمضي المؤلف موضحاً كذلك أن شوق الناس إلى الضياء جاء محفوفاً مع الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بهواجس سادت وقتها جنبات مجتمع أديسون الأميركي.

وقتها كان أهل "أميركا" يتسامرون عن الأصول الأولى للبحوث التي كانت تحاول التوصل إلى ضوء الكهرباء، وكانت البحوث في "إنجلترا" على وجه التحديد. والحاصل أن سنة 1809 شهدت عالم الكيمياء الإنجليزي "همفري دا" وهو يقدم إلى العالم كشفه التاريخي الذي حمل الاسم التالي:

"قوس الضوء الكهربائي". وكان هذا القوس عبارة عن جسمين من الكربون تعبر بينهما شحنة كهربية تبعث ضوءاً كم كان مبهراً في تلك الأيام البعيدة.

"القوس الكهربائي" كان بمثابة القريب البعيد كما يسميه كتابنا في عائلة "مصباح أديسون الكهربائي"، مع ذلك ظلت الأقواس المشعة بالضوء تنير شوارع مدن القرن التاسع عشر، فيما كان أهلها يعدونها آية على ما تتمتع به حواضرهم من نعمة التقدم والرفاه والرخاء.

ولم يكن مصادفة أن ظل أهل "نيويورك" مثلاً يتغّنون بحسن حظ مدينتهم التي أضاءت شارعها "الخامس" الشهير وهو شارع الفن والمسرح والترفيه بأضواء الأقواس المشعة التي تصوروا أنهم دخلوا بفضلها عصراً ذهبياً غير مسبوق.

لكن المشكلات ظلت قائمة كما تقول فصول الكتاب. أصوات الطنين الدائم تنبعث من أقواس الضياء، الأقواس المضيئة تضايق الناس، وخاصة الأثرياء الذين أنفقوا المبالغ الطائلة لجلبها إلى حيث يقطنون، وكان أخطر عوامل المضايقة، وكما ينقل كتابنا أيضاً عن أهل تلك المرحلة في أميركا تلخصه عبارة واحدة هي: أن أضواءها تؤدي إلى تضخيم ملامح الناس!

فإذا بالتجاعيد وقد تجلت وأخاديد التقدم في العمر وقد تبّدت، فما بالنا وأن الأضواء تميل إلى زرقة تنعكس سلباً على ملامح البشر، وخاصة الغيد الحسان! يومها قال قائلهم على نحو ما تنقل سطور الكتاب أيضاً: إن هذه الأضواء الزرقاء تؤدي إلى طمس معالم الجمال الطبيعي للجنس الأنغلوسكسوني في أميركا.

من هنا كان طبيعياً أن يتزاحم العلماء والمخترعون والمبدعون والمغامرون، وأحياناً المقامرون والمدّعون على التوصل إلى المصباح الكهربائي، المأمول من حيث الكفاءة والسلامة، والمعقول من حيث السعر، وربما المطلوب للحفاظ على ما كان القوم أيامها يدّعونه من جمال طبيعي يتمتع به أحفاد الأنغلوسكسوني من المهاجرين الذين كانوا قد وفدوا على الأرض الأميركية مع أيام القرن السابع عشر للميلاد.

لقد استطاع الأميركيون أن يمارسوا هواية القراءة في مضاجعهم بالبيت بعد أن توافر لهم نور الكهرباء، وجاء دور المدن كي تضاء شوارعها وأرصفتها وإشارات مرورها بأضواء الكهرباء فضلاً عن واجهات متاجرها ولوحات الإعلان المنصوبة على أسطح مبانيها.

كل هذا أدى إلى ما يصفه كتابنا بأنه "خلْق الإحساس العميق بتجربة الحياة الحضرية الحديثة"، وكان ذلك منذ وقت ليس بالقصير، بل كان على وجه التحديد ابتداء من عام 1904 حين عاشت أميركا، ومن بعدها عالم القرن العشرين ما اصطُلح على تسميته بأنه "ثورة الكهرباء" التي لم تقتصر بداهة على شوارع المدن ولافتات الإعلان بل امتدت إلى حيث أصبحت ثورة اقتصادية بعد أن دخلت الطاقة المستجدة إلى أروقة مصانع الإنتاج ومواقع الخدمات على اختلاف تخصصاتها، ويكفي مثلاً أن أتاحت الكهرباء تنظيم ما أصبح يوصف بأنه "النوبة الليلية" في المصانع والمعامل وما في حكمها وهو ما أدى بالطبع إلى ما يقرب من مضاعفة الإنتاج والإنجاز.

أما في دنيا العلم فقد أدى ضوء الكهرباء إلى المزيد من دقة العمليات الجراحية كما فتح السبيل أمام اكتشاف قاع البحر بكل ما يحتويه منذ بدء الخليقة من إمكانات وكنوز.

وهناك السلبيات أيضاً لكن لكل إيجابية سلبياتها بطبيعة الحال.

جاءت الكهرباء لتضيء الدنيا. لكنها كانت وافداً مستجداً على حياة الناس الذين لم يألفوها ولا اعتادوا عبر السنين على التعامل معها ومع ما قد ينطوي عليها من أخطار.

هكذا شهدت أميركا في بواكير تعاملها مع الكهرباء أعداداً من الضحايا من العمال الذين أصيبوا بصدمة الصعق الكهربائي، ما أدى إلى الوفاة أحياناً أو إلى إصابات بالغة في بعض الأحيان.

ولأن عمال الكهرباء كانوا يعملون في تمديد الأسلاك ونصْب الشبكات على مرأى ومسمع من المارة في شوارع المدن الأميركية وساحاتها، فكم فوجئ الناس بضحايا الصعق الكهربائي وهم معلقون على الأسلاك، لدرجة أوحت لصحافي أميركي كما يقول مؤلفنا - باقتراح تشغيل المحكوم عليهم بالإعدام في نشر الأسلاك وتجهيز الشبكات وعلى أساس أنهم سوف يُعدمون بالكرسي الكهربائي في كل حال!

وبديهي أيضاً أن اختراع أو اكتشاف توماس أديسون لم يكن ليقتصر على حكاية المصباح الكهربائي، لأن طاقة الكهرباء مازالت هي المحور رقم واحد في حياة أهل المعمورة على اختلاف أقطارهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، يستوي في ذلك زر الكهرباء البسيط في ردهة الكوخ الإفريقي بقدر ما تستوي السيارة الكهربية المرتقب انتشارها في المستقبل أو فلنقل السيارة الهجين (Hybrid) كما يسمونها، حيث تجمع في تشغيل محركها بين الكهرباء والبترول، بقدر ما تستوي القطارات الحديدية فائقة السرعة أو الهواتف النقالة حديثة الإمكانات.

ولقد قاد توماس أديسون كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب - حقبة فريدة في تاريخ أميركا والعلم، لأنها كانت حقبة المخترعات التي أدت إلى تحويل، بل تثوير، حياة الأفراد والشعوب منذ الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر وربما حتى ثلاثينات القرن العشرين.