هكذا التقيت بالملك فيصل الأول

هكذا التقيت بالملك فيصل الأول

إبراهيم الواعظ

كان اللقاء الاول مع الملك فيصل الاول يوم 20/11/1029. وقد سبق هذا اجتماع عقده المحامون مساء يوم تشييع جثمان رئيس الوزراء المنتحر "عبد المحسن السعدون" للمداولة في سبل تخليد "ذكراه" ومنها اقامة حفل تأبين في يوم الاربعين تحت رعاية الملك.

واسفر الاجتماع عن انتخاب لجنة برئاسة محمد زكي وعضوية ابراهيم الواعظ وشفيق نوري وعبد العزيز السنوي وعلي محمود الشيخ علي ونجيب الراوي. وانتدبت اللجنة اربعة من اعضائها. هم: ابراهيم الواعظ وشفيق نوري وعبد العزيز السنوي ونجيب الراوي لمقابلة الملك وعرض الاقتراح عليه واتفقوا على ان يكون الواعظ هو المتحدث باسم اللجنة.

وحين حظيت الهيئة بمقابلة الملك التمس الواعظ منه ان يشمل حفل التأبين برعايته فاجاب الملك شاكرا وانه اناب عنه رئيس الوزراء ناجي السويدي لحضور الحفل، ثم قال (ارجو ان يكون الخطباء والشعراء في هذا الحفل اقل تحمسا بالنظر لما بيننا وبين الحليفة الحكومة البريطانية من عهود ومواثيق) فرد الواعظ (عفوا – يا صاحب الجلالة – ان العراقيين اعرف بالسياسة من غيرهم وان حفل التأبين سوف لايكون حفلا يكرم به الميت انما هو ثورة على السياسة البريطانية الغاشمة التي اتبعتها من يوم دخولها الى بلادنا الى يومنا هذا. ونحن اذا ما طالبنا بحقوقنا فانما نطالب بحق اقزه الانكليز انفسهم اذ قالوا "جئنا الى بلادكم محررين لا فاتحين" فاين اعمالهم من اقوالهم) وعند ذاك اشار الملك على اعضاء الهيئة بالجلوس وباشر يتكلم مستعرضا مواقف الحلفاء منه وكيف تخلت بريطانيا عنه وفقد عرش سوريا ولما تمض سنتان على الحكم العربي في سوريا، اذ زحف الجنرال الفرنسي "غورو" على دمشق واحتلها وارغمه على مغادرتها تطبيقا لمعاهدة "سايكس – بيكو"، وانه قبل عرش العراق ليأخذ بيده ويبذل الجهد لرفع الانتداب عنه وجعله بلدا مستقلا مؤهلا لعضوية "عصبة الامم"، وانه مع تقديره لمشاعرهم الوطنية يرى ان التعامل مع الدولة المنتدبة بالعنف والتحدي لايؤلد الا تصلبا وتعسفا وان سياسة المراحل تؤتي ثمارها بالنتيجة، والهدف واحد، وخرج المحامون الاربعة الشباب من عند "فيصل" وهم اشد اصرارا على جعل حفل التأبين مظاهرة سياسية. وكان الحفل، وانبرى الزهاوي والرصافي والاثري والقشطيني ينددون في قصائدهم بالانتداب البريطاني.

وحين دعي الواعظ، وكان نائبا في مجلس النواب، مع لفيف من الشخصيات العراقية لحضور المؤتمر الاسلامي المنعقد في بيت المقدس (كانون الاول / 1941) طلب مقابلة الملك. ويحدثنا عن هذه المقابلة فيقول: (قصدت البلاط لمقابلة الملك للاستئذان بالسفر ولما قابلته شكرني على الزيارة وطلبت منه الارشاد. فقال – انني مطمئن منك فلا تحتاج الى الارشاد، وودعته وخرجت). ثم يحدثنا الواعظ عن نشاطه الدعائي خلال سفرته على هامش المؤتمر قائلا (سافرت الى فلسطين وعند مروري ببيروت قابلني مراسل جريدة "النهار" اللبنانية وادليت بحديث اشدت فيه بالملك فيصل وما قام به من خدمات، وان المعاهدة التي صدقها البرلمان العراقي بين دولة صغيرة كالعراق ودولة كبرى كبريطانيا تعتبر خطوة نحو الاستقلال التام، وفي القدس ادليت بحديث الى جريدة مقدسية اسهبت فيه عن الحالة في العراق وتشجيع الملك فيصل للصناعات الوطنية. وقدمت للمحرر نماذج من منسوجات معمل "فتاح باشا" وبعض المنتوجات الوطنية، وتطرقت في الحديث الى المعاهدة والملك فيصل وقابلني في القدس مراسل جريدة "البلاغ" المصرية لسان حال حزب الوفد المصري وادليت له بحديث عن التقدم السريع الذي حصل في العراق. وتطرقت الى المعاهدة وان "النحاس باشا رئيس حزب الوفد المصري" بارك طنوري السعيد" على هذه المعاهدة، وعند عودتي الى العراق قصدت البلاط لمقابلة الملك فاستقبلني واجلسني بجانبه وقدمت له وصفا لسفرتنا وما قمت به من خدمة لجلالته. فقال اعرف ذلك واطلعت عليه واني اشكرك يا ابراهيم. ثم قمت مودعا فوضع يده على كتفي ومشى معي حتى باب الغرفة فودعته وخرجت).

وعندما اثيرت قضية "الرسائل السرية" 1931، وكانت هذه الرسائل قد وزعت بالبريد وتضمنت طعنا في الملك وبعض الشخصيات السياسية، اتهم وزير الداخلية "مزاحم الامين الباجه جي" بان له ضلعا فيها، وعلى اثر ذلك قدم رئيس الوزراء "نوري السعيد" استقالته واعاد تشكيل الوزارة بدون مزاحم وحل محله ناجي شوكت وزيرا للداخلية، ويتحدث الواعظ عن ذيول القضية ومناصرته لمزاحم تحت قبة البرلمان ووكيلا عنه في ساحة القضاء: (اقتضى الامر رفع الحصانة النيابية عن مزاحم لتقديمه للمحاكمة وقررنا ان يقدم مزاحم استقالته من المجلس قبل قرار رفع الحصانة وقد اثيرت ضجة في مجلس النواب كنت بطلها، اذ تخلى "جميل المدفعي" عن الرئاسة لنائب الرئيس واخذ يهاجني مع العديد من النواب وبقيت وحدي مدافعا، وقبل دخولي الجلسة وكنت في غرفة الاستراحة مع عدد من النواب جاء "رستم حيدر" – وكان يومئذ وزيرا للمالية – وخاطبني قائلاً (ما هذه التصرفات من مزاحم؟ انت الذي سببت هذه الضجة) فقلت له: (الزم حدك واذا لم تخرج من هذه الغرفة اهنتك) فخرج. ويستطرد الواعظ (وعلى اثر ذلك طلبت من "تحسين قدري" رئيس التشريفات الملكية تحديد موعد لمقابلة الملك على شرط ان لاتكون المقابلة في البلاط.

وحدد الموعد في "قصر الحارثية" فذهبت في الموقع المعين ولم اجد هناك سوى المرافق ودخلت على الملك فوجدته واقفا بانتظاري وطلب مني الجلوس فقلت "لا اجلس حتى تؤمن لي ان اتكلم ما اريد" فاجابني "لك ذلك" فقلت "يا صاحب الجلالة ان قضية مزاحم الباجه جي امام المحكمة وان المحكمة يرأسها (المستر لوئيد) الحاكم البريطاني واني كمحام اجد ان الحاكم مفرض في هذه القضية واخشى من الظلم على الابرياء. وان هناك تزويرا يحاك في الوزارات واخشى ان يؤثر ذلك في القضية ويزهق الحق".

وحين تطرقت الى الوزارات قال الملك (الا رستم حيدر)! فقلت له (انا قصدت من الوزارات الوزارة التي يشغلها رستم حيدر، ان التزوير يا سيدي يحاك في وزارة المالية وتحت اشراف رستم حيدر، وان رستم - يا صاحب الجلالة – سيمثل دور "العلقمي"، وسيقضي على العرش بالدسائس التي يدبرها والتفرقة التي يبثها. فيا سيدي انت الوازع في هذا البلد وانت المسؤول امام الله وامام الناس فلا تدع لهؤلاء الهدامين سبيلاً. ولا تعتقد ان كلامي هذا في شيء من التلفيق فكل ما عرضته هو واقع وعليه دلائل وبراهين، فائق الله – يا صاحب الجلالة – في رعيتك". واني اقول لك ان من اصدق الناس لك ولعرشك نوري السعيد ومزاحم الباجه جي، والله يتولى هدانا وهداك، واستودعك الله، وسلمت عليه وخرجت ولم يئبس بكلمة واحدة).

وعلى اثر هذه المقابلة العاصفة يتحدث الواعظ عن مقابلة اخرى: (كان المرحوم جميل قفطان مرافقا للملك فيصل وقد وقعت بيدي وثائق هامة حصلت عليها منه تثبت ما قلته للملك في مقابلتي الاولى عن الدسائس التي تحاك ضد العرش).

عن مذكرات ابراهيم الواعظ: "مواقف في الحياة" التي اعدها ابنه مصطفى الواعظ للنشر.