من التجارب الصحفية الرائدة..جولة في صحيفة (الهاتف) النجفية

من التجارب الصحفية الرائدة..جولة في صحيفة (الهاتف) النجفية

د. جاسب عبد الحسين الخفاجي

كانت مدينة النجف الاشرف من المدن العراقية التي تأثر مثقفوها وادباؤها في الصحف العربية والعراقية، وكان للصحافة أثرها الاعلامي بإفهام الشعوب والسلطات سمو المبدأ الديني الاسلامي، وأوضحت للملأ الدعوة إلى تحرير الشعوب واسترداد الحقوق.

ومن نتائج الصراع الفكري والديني بين فئتين، الفئة الأولى تدعو إلى تحريم قراءة الصحف وتدعو إلى الاستبداد وتقييد الحريات، ولاسيما بعد منع الولاة العثمانيين دخول الصحف من الخارج سواء أكانت معارضة أم مؤيدة، ومن وجد بحوزته صحيفة من هذه الصحف الممنوعة كان مصيره السجن أو النفي.والفئة الثانية التي تولت مسؤولية الجهاد من أجل محاربة الاستبداد والمطالبة بالديمقراطية والدستور وابرز الرجال الذين تولوا هذه المسؤولية المجتهد محمد كاظم الآخوند،ومدرسته التي خرجت مئات الأعلام.

ومن الجدير ذكره أنّ كثيرا من الصحف العربية فضلا عن العراقية كانت تصل سرا إلى النجف الاشرف،ويختفي قراء هذه الصحف عن الأنظار، حتى عن بعض أخوانهم وآبائهم، ولكن أول من جابه الجمهور بقراءة الصحف علنا في إحدى ايوانات الصحن الحيدري (السيد سعيد كمال الدين) وتجمع الشباب المثقف حوله لحمايته إذ حاول البعض الاعتداء عليه، وعلى الرغم من هذه الصعوبات وانسجاما مع نهج النخبة المثقفة من العراق،انبرى العديد من المثقفين النجفيين الذين تأثروا برواد حركة التجديد في المؤسسة الدينية في النجف الاشرف كان منها اصدار الصحف والمجلات،ولما كان البحث معني في الصحافة النجفية(1939ـ1958) فسيقتصر ذكر ما صدر منها منذ دخول النجف الاشرف المعترك الصحفي الى بداية البحث، من دون التفصيل في موضوعاتها ومعالجاتها.

أصدر جعفر أسد الخليلي جريدة الهاتف،العدد الأول في(29 محرم 1354هـ/3 ايار 1935م)، حرص صاحبها ومديرها المسؤول(الخليلي)، على صدورها بانتظام كل اسبوع في يوم الجمعة.سميت الهاتف تيمنا باسم ابن صاحب الجريدة(هاتف) وسمي الشارع الذي يقع فيه مكتب الجريدة باسم الجريدة(شارع الهاتف) حاليا.

امتازت الجريدة عن غيرها آنذاك بتلون غلافها الخارجي،وفي الغالب يكون ورقها ذا لون أحمر، طبع عليه في الثلث العلوي اسم الجريدة وبشكل بارز، وبقي نوع الخط الذي كتب فيه العنوان ثابتا، ولم يستبدل حتى نهاية اصدار الجريدة.وأما في الثلث الاسفل فذكر فيه العدد والسنة والتاريخ والمطبعة ورقم البريد المسجل،وأما محتويات العدد فتتصدر واجهة العنوان للجريدة.

أفردت جريدة الهاتف بابا بعنوان(أخبار وحوادث) في الصفحة الثانية منها، تنشر فيها الاخبار الاجتماعية والادارية في النجف الاشرف، مثلا: حرصت الجريدة بنقل اخبار الحج والحجاج الذين يغادرون عن طريق الحج من حين انطلاقه من مدينة النجف الاشرف حتى المدينة المنورة ويعد أفضل طريق آنذاك يسلكه الحجيج من العراق وخارجه. وأما في ديباجة الصفحة الثالثة فقسم الثلث الأعلى من الصفحة إلى ثلاثة أقسام، احتوى القسم الأيمن على خط الجريدة ومنهجها،وأما المنتصف فكتب فيه اسم الجريدة وعنوانها ورقم الهاتف، وأما القسم الاخر فحدد فيه قيمة اشتراك الجريدة السنوي ومقداره نصف دينار داخل وخارج القطر.

حرص الخليلي على كتابة افتتاحية الجريدة بنفسه، معالجاً فيها الكثير من القضايا الاصلاحية الهادفة، مثلا: دعا الخليلي في مقال افتتاحي بعنوان(عامل التهذيب الروحي) مستغلا شهر رمضان لدعوته، ومطالبا فيها تهذيب وصقل النفس لترويض النفس نحو الخير.

اسهم عدد من المثقفين والأدباء في كتابة افتتاحية الجريدة عندما يسافر خارج النجفومنهم حسين مروة، ومحمد شرارة، ومحمد رضا المظفر، وتوفيق الفكيكي،ومحمد حسين كاشف الغطاء).

قدم صاحب جريدة الهاتف عرضاً موجزاً لنشاط الجريدة في الساحة الأدبية خلال صدورها في السنة الرابعة من عمرها واستطاعت دار الهاتف أن تخرج إلى أسواق الأدب ثلاثة وسبعين كتاباً ومن ضمنها أربعة مجلدات للجريدة وتسعة كتب لمحرر الهاتف وعلى حد تعبيره.وفي الجانب الآخر أضاف الخليلي بابا ثابتا آخر في الاخراج الفني للجريدة(في معرض الهاتف)، بعد أن اتفق مع شركة الصور العالمية لنشر أحدث الأخبار العلمية،محاولا في ذلك نقل معالم الغرب إلى قراء الجريدة، وتعد خطوة جريئة تضاف إلى مكانة الجريدة وتأثيرها في المجتمع.

عنيت الجريدة بنشر الاعلان المصوّركما في الاعلانات التي نشرت في الجريدة، مثلا: سكائر(غازي) الراديو زينيت، ومكائن الخياطة، والأحذية النسائية، والساعات اليدوية، والاطارات والعلاجات الطبية.، والتحريري،ويتم الاتفاق مع محاسب الجريدة على مقدار مساحة الاعلان.

اولت جريدة (الهاتف) عناية خاصة في أدب القصة، وانفردت بإصدار عدد ممتاز في بداية كل سنة من أجل إنعاش أدب القصة في العراق وبدأت الأعداد القصصية تفعل مفعولها في انماء روح الفن القصصي، هذا ما أشار إليه صاحب الجريدة في العدد الأخير من السنة الرابعة.

واستحدثت جريدة(الهاتف) بابا جديدا بعنوان(استفتاء أدبي) وجّه الخليلي من خلاله ثلاثة أسئلة إلى بعض الكتاب والأدباء يعوّل على رأيهم في حلول المشاكل الأدبيةومن الأدباء احمد الصافي النجفي، محمد رضا المظفر، الشيخ عبد الحسين الحلي، انور شاؤل، صدر الدين شرف الدين، توفيق الفكيكي، عبد الحق فاضل، ذو النون ايوب، عبد الوهاب الأمين، حسين مروة، جمال الدين الآلوسي،، والأسئلة هي:

أصحيح أن مستوى الأدب العراقي متأخر بالنسبة لمستوى نهضته الاجتماعية؟

إذا صح ما تقدم فما الأسباب الموجبة لتأخر الحركة الأدبية وضعف الإنتاج الأدبي عندنا؟

ما الوسائل الفعالة التي ترون وجوب الأخذ بها لرفع شأن الأدب العراقي إلى المقام اللائق؟

أدركت جريدة(الهاتف) الصلة الوثيقة بين الأدب والصحافة،ولذلك أفرد بابا ثابتة تحت اسم(حقل الشعر) معتقدة أن للصحافة الأثر البالغ في القصيدة من حيث غرضها ولغتها وأسلوبها، حتى نشر فيها كثير من الأدباء والشعراء من داخل النجف الاشرف وخارجه.ومن اهم الشعراء: محمد حسن حيدر، ومحمد جمال الهاشمي، وسيد احمد الرضوي، وسيد محمد علي اليعقوبي،وابراهيم الوائلي، وعلي البازي، ومرتضى فرج الله، وسيد مير علي أبو طبيخ، وحسين قسام، وعلي الشرقي، والسيد محمد صالح بحر العلوم،وسيد محمود الحبوبي.

يبدو واضحا أن التلاقح الفكري والمعرفي لمدينة النجف الاشرف، صقلت المواهب الفكرية والأدبية لدى جعفر الخليلي، ولاسيما مسعاه في اصدار صحيفتي(الفجر الصادق) و(الراعي)، وتوجهما في اصدار جريدة(الهاتف) في عام 1935م، وحتى عام 1954م، واستمرارها على الرغم مما اعترض طريقه من بعض الأزمات السياسية والاقتصادية حتى أن الخليلي باع مكتبته الضخمة من أجل دعم الجريدة واستمرارها.

سعى الخليلي في أثناء مدة صدور الجريدة ـ في مدة البحث ـ على اصدار(379) عددا من أصل(527) عدد صدرت في النجف الاشرف، أن يكون منبرا أدبيا فكريا اصلاحيا معتدلا في عرض نتاجها وموضوعاتها، التي حققت نجاحا كبيرا على الصعيدين: الأدبي والصحفي، من خلال اهتماماتها بالقضايا الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية،مثلا: في الحرب العراقية البريطانية 1941، وقد عبّر الخليلي عن هذا الاضطراب في مقال جاء فيه((لقد مرّ على العراق دور لم نرَ له شبيها في جميع الأدوار التاريخية... وعدنا اليوم جاعلين الحكمة المأثورة"ما تهدمه السياسية يبنيه الأدب")).

كشفت جريدة (الهاتف) عن تعدد وجوه المثقفين في مدينة النجف وحاولت أن تنشر المشاكل التي واجهت المدرسة النجفية ودعت إلى اصلاح المدارس من خلال نشر نواة أفكار المثقفين الداعين إلى هذا الاصلاح.

عن رسالة (الصحافة النجفية 1939ـ1958((دراسة تاريخية)))