طرائف من تاريخ الصحافة العراقية

طرائف من تاريخ الصحافة العراقية

رفعة عبد الرزاق محمد

كيف توفي الصحفي داود صليوا؟

وقفت على مقالة للمؤرخ العراقي المنسي رزوق عيسى في مجلة الاحد سنة 1934، يقول انه استله من كتابه (مطلع القمرين في تراجم ادباء بين النهرين)،

وهو عن داود صليوا الملقب بالمعلم، وهو من رواد الصحافة العراقية في عهدها الاول، ولعله اعتمد على ما نشره صليوا نفسه في العدد 89 من جريدته (صدى بابل) بعنوان (خصلة من ترجمة المعلم داود صليوا) ثم اطلعت على بعض اخباره في الصحف والمجلات المتفرقة، وغير ذلك مما اتاح لنا التعريف به في النبذة الجديرة بالاستدراك التي نشرناها قبل سنوات.

ويكفي الاشارة هنا الى انه اصدر: الغرائب هي مجلة فكاهية نصف شهرية صدر منها 12 عددا، وجريدة صدى بابل وهي جريدة اسبوعية استمرت خمس سنوات وفي اوائل سنتها السادسة توقفت لنفي صاحبها الى (قيصرية) بامر الوالي جاويد باشا سنة 1914، وبقي في منفاه سنتين وفقد احدى عينيه لما قاساه من الاهوال، وكان سبب نفيه انه مدح السيد طالب النقيب بقصائد عديدة والنقيب كان احد خصوم السلطة التركية الاتحادية.

وكتب رزوق عيسى ان وفاته كانت عندما خرج في الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم الرابع من تشرين الثاني وهو يشكو الما في قلبه، وبينما كان سائرا بالقرب من جامع مرجان في الجادة العمومية اعترته رجفة شديدة فسقط على اثرها على الارض فاذا هو جثة هامدة، وفي اليوم الثاني دفن باحتفال كبير.

غير اني قرأت في جريدة لسان العرب التي كان يصدرها ابراهيم حلمي العمر ليوم السابع من تشرين الثاني (وهو يوم مولده) 1921 خبرا تحت عنوان: وفاة المعلم داود صليوا في الطري العام ضحية السيارات، جاء فيه:

علمنا بكل اسف ان احدى السيارات قد صدمت الاستاذ الفاضل داود افندي صليوا صاحب جريدة صدى بابل المحتجبة ومن قدماء صحافيي العراق وادبائه فسقط مغشيا عليه وادركته المنية في الحال وتوفاه الله عن عمر لا يقل عن سبعين عاما وقد كان رحمه الله اديبا فاضلا واستاذا في اللغة العربية وله تلامذة كثيرون في العراق.

من طرائف الأغلاط الصحفية

كثيرة هي المشاكل التي واجهت الصحافة العراقية في مسيرتها الطويلة، فبالاضافة الى مشاكل الورق والاشتراكات وقانون المطبوعات كانت مشكلة الاغلاط المطبعية،وما زالت، العلامة البارزة في صحافتنا، واليك طريفة من طرائف الاغلاط المطبعية في صحافتنا.

كان المرحوم رفائيل بطي،يحرص على ان تصدر جريدته الذائعة الصيت (البلاد) خالية من الاغلاط الطباعية وخاصة تلك المقالات الخطيرة المتعلقة بسياسة الدولة والنقدات الموجهة اليها، وكان ــ رحمه الله ــ يقوم بتصحيح مسودات الطبع بنفسه قبل ان يغادر ادارة الجريدة، ولم يكن نظام المصححين لمراجعة المقالات المعدة للنشر وتقويم لغتها قد ظهر بعد يوم كانت المطابع بدائية قبل ان تظهر مطابع اللاينوتيب ويقضي مرتب الحروف ساعات الليل وراء (التزكاه) يرتب مواد الجريدة بترتيب حروف كلماتها ثم يعيدها الى اماكنها بعد انتهاء الطبع. او كانت الحروف المصنوعة من مادة (الرصاص) يعاد سبكها بعد ان تصهر وتوضع في قوالب الحروف ثم تبرد بالماء ويجري استخدامها ثانية، وكنا نرى في كل مطبعة زاوية فيها مرجل الصهر وقد كسي من الداخل والخارج بمادة الرصاص.

وفي يوم كانت الازمة السياسية شديدة ـ كتب رفائيل بطي مقالا افتتاحيا يخاطب فيه رئيس الوزراء ومعلقا على احدى المواد القانونية المقدمة الى مجلس النواب ومما قال في المقال: (وقد سبق ان قلنا لفخامة رئيس الوزراء ان هذه المادة القانونية المقترحة..). ولما اطلع على مسودات الطبع، ارتأى ان يحذف كلمة (المقترحة) فشطب عليها وكتب بجانبها (تحذف). ولما اطلع على المسودات الثانية وكان على وشك الخروج وجد ان مرتب الحروف وكان جديدا لا يعرف طريقة رفائيل بطي في التصحيح قد رتب العبارة كما يلي:

(وقد سبق ان قلنا لفخامة رئيس الوزراء ان هذه المواد القانونية المقترحة تحذف..) فاستشاط بطي غضبا ومد خطا ثانيا وكتب الى جانب العبارة (تحذف يا غبي)) وبعث بها الى المطبعة وغادر ادارة الجريدة مسرعا.

وصدرت الجريدة في الصباح وفي مقالتها الافتتاحية العبارة (وقد سبق ان قلنا لفخامة رئيس الوزراء ان هذه المادة القانونية تحذف يا غبي..).. اضطر رفائيل بطي ان يذهب بنفسه الى رئيس الوزراء وبيده مسودات المقال والتصحيح الذي جرى عليها، وقدمها معتذرا عما ورد في المقال من خطأ غير مقصود، في الوقت نفسه الذي كان رئيس الوزراء يضحك في قرارة نفسه!

وكثيرا ما كان الصحفيون القدامى يتحدثون عن طرائف الاغلاط الطباعية التي كانت الصحف اليومية تقع في مشاكلها، ومنها عندما ظهرت حدى الصحف وقد نشرت صورة النائب ثابت عبد النور وقد تحولت كلمة (النور) الى (الثور).. ومما هو قريب من هذا ما نشرته احدى صحف بغداد من استقبال الرئيس... للشخصية السياسية السورية صلاح الدين البيطار فقالت في صدر صفحتها الاولى وبحروف كبير: (البيطار يزور الرئيس ع...) ولاشك ان التعبير كان غير موفق، اذ ان البيطار لقب لمهنة معروفة!!

ومن الأخطاء المشهورة كانت في الصفحة الأولى من إحدى صحفنا في الايام الاولى من العهد الجمهوري، وفي عنوان بارز نقلا عن تصريح لمسؤول كبير قوله (لا استعمار بعد الأمس)، وسبب هدا الخطأ أن محرر الصفحة الأولى اعتاد شطب كلمة (اليوم) في الأخبار التي ترد من وكالات الأنباء ووضع كلمة (أمس) وهذا أمر طبيعي لأن الصحف تصدر في اليوم التالي، وما يحدث هذا اليوم يكون قد حدث أمس، ولكن ذلك المحرر وفي زحمة العمل ليلا أستبدل كلمة اليوم بكلمة الأمس في حديث للرئيس أحمد حسن البكر في عبارة (لا أستعمار بعد اليوم) فظهرت (لا أستعمار بعد الأمس)!.

ومن أشهر الأخطاء المعروفة في الوسط الصحفي، ما وقع في خبر وفاة أحد الأشخاص إذ طلب رئيس التحرير نشر الخبر (إن وجد له مكان) في صفحة الوفيات وكتب بخط يده تلك العبارة. وفي اليوم التالي ظهر خبر الوفاة وفي نهايته أسكنه الله فسيح جناته إن وجد له مكان!!.

جريدة العراق

تعد جريدة (العراق) التي اصدرها الصحفي العراقي الرائد عام 1020 أول مدرسة صحفية عمل فيها الكثير من الصحفيين الذين اقترن بهم تاريخ الصحافة العراقية. كان رفائيل بطي محرر جريدة(العراق) وكاتبها الاول، منذ أوائل العشرينيات، حتى أن دبّ الخلاف مع صاحبها رزوق غنام، ثم تطور الامر الى قطيعة، أدت إلى أن يستقل مع جبران ملكون الى اصدار جريدة (البلاد) عام 1929، أصبحت خلال فترة وجيزة من افضل الصحف العراقية. ولم يكن امام رزوق غنام الا ان يتجه الى منشّي زعرور ليحل محل بطي، بعد ان ادرك مزاياه، وتنوع مواهبه الصحفية والإدارية.وكان اختياره في موضعه، فقد اصبح زعرور كاتبه الأول ومدير جريدته ومحركها الرئيس. واستمر الامر الى عام 1934 حيث التحق بجريدة صديقه رفائيل بطي(البلاد)، ثم عاد الى جريدة (العراق) إلى أن احتجبت نهائيا عام 1946. ويذكر مير بصري انه كان يتردد على جريدة العراق عام 1933، وعندما كان صاحبها رزوق غنام يغيب عنها او عن مجلسه في ادارة جريدته، كان نائبه ومحرر الجريدة منشّي زعرور، وكان يحررالجريدة من الفها الى يائها، فهو محررها وكاتب افتتاحياتها ومحاسبها ومسؤول الاعلانات والتوزيع وملاحظ الاخبار الداخلية والخارجية... يعمل من الفجر الى ساعة متاخرة من اللبل، وكثيرا ما كان يبيت فيها.

كتب منشّي زعرور في موضوعات مختلفة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع وحرر الاخبار المختلفة باسلوب محبب للقاريء. كما كان يكتب بدون توقيع او بتوقيعه الاثير لديه وهو (السميذع العربي).وكان كثيرا ما يلجا إلى صلاته الواسعة مع شرائح المجتمع المختلفة يستقي منها ما يريد أن يكتب.

ولم يكن ذلك غريبا على رزوق غنّام وجريدته، وقد كان من منهجه تشجيع الكتاب والاخذ بيدهم، وكثيرا ما كان يترك لمحرريه مهمة الكتابة في السياسة والاجتماع، مكتفيا بدور المشرف والموجه احيانا. يقول رفائيل بطي في محاضراته عن الصحافة العراقية عام 1955: ان جريدة العراق اقدم جريدة اهلية بعد الحرب الاولى، عاشت سنين واشغلت حيزا في تاريخ الصحافة. برزت في 1 حزيران 1920 وهي تعالج السياسة والاقتصاد والادب بلسان عربي فصيح... ومع انها تؤيد السياسة البريطانية بوجه عام، فلم تكن تهمل واجبها كجريدة تشعر بالضمير الصحفي وتعزز النزعة الوطنية بطريقة ايجابية معتدلة، مما اكسبها رضى كثير من السياسيين. ويبدو ان رفائيل بطي يقدم ما لا يسع الاديب جهله عن هذه الجريدة، والا فان ما ذكره في مذكراته شيء آخر. لقد كان غنام قريبا من السلطة، وهي التي مكنته من الوصول الى المجلس النيابي ست مرات عن مسيحيي بغداد.وقد بقيت (العراق) تصدر بانتظام إلى أن أغلقها صاحبها سنة 1946.