الرسام كلود مونيه:  رحلة صاخبة بسحر الفن

الرسام كلود مونيه: رحلة صاخبة بسحر الفن

د. جمال العتّابي

نادى الفنان كلود مونيه لزميله بازل: حاول أن تجد لي مئة فرنك.. فأنا أكاد أتضور جوعاً. كان ذلك في خريف 1866 ومونيه، إذ ذاك في السادسة والعشرين، عندما قطع عنه والده البقال، كل معونة، كان من العسير عليه أن يجد مشترياً للوحاته، وأرهقه الدائنون بفواتيرهم،

فهرب منهم إلى مرسم صديقه بازل، ومن فرط غضبه مزق معظم لوحاته حتى لا يراها تباع في المزاد، ولم يحتفظ منها بشيء سوى لوحة (شرفة سانت إدريس) نسبة إلى المنطقة التي عاش فيها في بيت خالته التي آوته في بيتها قرب مدينة (le haver) الفرنسية. بعد وفاة والدته وهو ما زال صبياً.

لوحة الشرفة عمل محكم مثير للاهتمام، خطوط عريضة حادة للأشياء، في تدرج لوني ساحر، يمثل مشهداً مطلاً على ساحل بحر، في الشرفة شقيقه، وخالته، بينما وقف خاله مع ابنته يتحادثان من بعيد، المشهد ينقل إحساساً بالهدوء وسحر الطبيعة، كما يظهر افتتان مونيه بالطبيعة والظل والضوء، وألوان القوس قزح، وكان للمياه والساحل الوعر لشمال فرنسا تأثير فني عميق عليه في سن مبكرة، وهو ملمح يكاد يطغى على معظم أعماله الفنية. إذ يعد كلود مونيه رائداً للحركة الانطباعية في أوروبا، بل إن الحركة أخذت اسمها عن لوحته الشهيرة (انطباع شروق الشمس) التي كانت تهدف لإشباع العين من الطبيعة بتسجيل الظاهر الحسي للأشياء، ليصبح بعدها من أهم فناني عصره.

رسم الانطباعيون الجمال الفخم، ومشاهد الحياة الرغدة للطبقة الوسطى في أوروبا، وصوروا مشاهد من حفلات الرقص، والقصور والحدائق، ومشاهد داخلية للمنازل الأنيقة، فكانت لوحاتهم فاتنة جذابة يسهل فهمها دون حاجة إلى ثقافة فنية أو ذوق خاص، كانت ببساطة مرادفة للجمال والبذخ الحسي. مضى مونيه يناشد زميله بازل: أنى ببيع هذه اللوحة، أبيع كل أسرتي، اشتدت الضائقة الماليه عليه، وفجأة يدخل عليه بازل ذات يوم هاتفاً: فرجت لقد بيعت لوحتك..

– بكم؟

– 400 فرنك (نحو 14 جنيهاً استرلينياً في ذلك الوقت).

– برافو.. إنها ثروة!

هكذا خاطب مونيه صديقه، وابتسامة الفرح تعلو شفتيه.

لم تنته قصة اللوحة عند هذا الحد، إذ هي سلسلة من المفارقات التي رافقتها، منذ أن ظلت معلقة لمدة نصف قرن من الزمان، في منزل مشتريها في مدينة مونبليه الفرنسية، حتى وفاته عام 1913، فباعتها الزوجة لتاجر لوحات بمبلغ 27000 فرنك، وبدوره نقلها إلى مكتبه في نيويورك، محتفظاً بها لمدة 12 عاماً، وفي عام 1926، وهي السنة التي توفي فيها مونيه، اشتراها آخر من ولاية بنسلفانيا بمبلغ 11 ألف دولار، وظلت اللوحة مختفية في قرية لحين نقلها إلى مزاد في لندن عام 1967، فبيعت بمبلغ 700 مليون فرنك، وأصبحت بذلك تحتل المرتبة الخامسة بين اللوحات العالمية.

مونيه

ولد الفنان كلود مونيه عام 1840 في باريس، كانت أمه ربة منزل تعتني بزوجها وأطفالها، بيد أنها أيضا، تلقت بعض التدريبات في الغناء. وكثيراً ما كان مونيه يهرب من المدرسة لينطلق في نزهات بحرية، كان يعمد إلى رسم مدرسيه بشكل كاريكاتيري أثناء وجوده في قاعة الدرس، حتى اشتهر في القرية التي انتقل اليها كرسام كاريكاتيري، يرسم بالفحم بمبالغ زهيدة رغم صغر سنه، عشق مونيه البحر والأنهار، وعرف كأشهر رسامي الطبيعة. وفي هذه الأثناء التقى الرسام بودان، الذي نصحه بتعلم الرسم بمادة الزيت، واستطاع فعلاً أن يدربه في هذا المنحى. سافر مونيه مجنداً إلى الجزائر، فانفعل بأضواء شمال افريقيا وألوانها، ومن هناك كتب يصف وقع الألوان الشديدة، المتوهجة في هذه البلاد، وكان لجمال الألوان وقعها الخاص في نفسه، لكنه عاد إلى باريس مريضاً مصاباً بمرض التيفوئيد مع عائلته عام 1862، ليواصل تعلمه للفن، وهناك توطدت علاقته مع الفنانين فتعرف إلى الفنان الكبير رينوار، ورسم أجمل لوحاته (سيدة في الحديقة) فضلاً عن البورتريهات الرائعة.

أثناء الحرب البروسية – الفرنسية عام 1874، اضطر مونيه إلى السفر إلى لندن هرباً من الحرب، وهناك عكف على رسم الطبيعة كذلك، إلا أن أعماله قوبلت بالرفض من قبل أكاديمية الفنون الجميلة، فأقام هناك معرضاً للمرفوضات مع عدد من الفنانين، لاقى قبولاً واسعاً. ارتبط مونيه بعلاقة صداقة مع جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا آنذاك، الذي كان يشجعه على تقديم بعض أعماله للحكومة كهدية تحتفظ بها في متاحفها الكبرى. من أعماله المهمة (صاحبة العظمة) لوحة لامرأة بمظلة، و(الغداء على العشب) كان يجوب نهر السين بمركب بخاري، مصوراً عذوبة الطبيعة، تحولت لمساته في النهاية إلى الاختزال القريب من التجريد، بعيداً عن التفاصيل المملة، فكانت رحلة مونيه رحلة صاخبة بسحر الفن.

من المؤسف أن ينال مونيه شهرته بعد وفاته، تباع لوحاته بملايين الدولارات، على الرغم من أن صاحبها مات فقيراً، وأصبح منزله وحديقته وأعماله الفنية أحد أهم المزارات التي يقصدها الزوار في فرنسا.