هنري زغيب
هل يكفي اقتطافُ عدد ضئيل من أَعمال رسَّام مكرَّس، لقراءة نسيجه الفني الكامل؟
طبعًا لا. فهو في كل لوحة ينفث إِبداعه كأَنه في اللوحة الأُولى. و"أُولى" بَعد "أُولى" يُحاك أُسلوبُه العام من مُجمَل أَعماله.
هكذا الأَمر مع الرسام الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) الوفير الإِنتاج (نحو 2000 زيتية وعدد كبير جدًّا من الرسوم والمخطَّطات والباستِل)، فهو لم يتوقَّف عن الرسم منذ مطلع صباه حتى آخر يوم من حياته الدسمة (86 سنة)، فكان سيِّد الفن الانطباعي الفرنسي ورُكنَه الأَساس، بما شاع عنه من عين لاقطة ثاقبة أَدقَّ فواصل الطبيعة، ومن تعلُّقه الخاص بالنور والماء.
كان لمونيه في مطلع صباه ميل إِلى الرسم الكاريكاتُوري، فكان أَن اشترى منه يومًا تاجرُ لوحات رسومًا عرضها في وقت واحد مع صديقه رسام المناظر الفرنسي أُوجين بودين (1824-1898)، وهو "ملِك الفضاءات" بتعبير كميل كورو (1796-1875) مُنظِّر تيار باربيزون (الذي اشتُهر في فرنسا بين 1830 و1870 برسم المناظر خارجًا في الطبيعة). تَقرَّب مونيه من بودين وراح يرافقه يرسم في الطبيعة.
تأَثَّر به مونيه وقرَّر أَن يترك الكاريكاتور ليكون رسامَ مناظر. وحين بودين تأَكد من موهبة مونيه، أَخذ يدرِّبه ويعلِّمه على الرسم في الطبيعة كاشفًا له فواصلَ جمالها. من أَول أَعمال تلك المرحلة الباكرة: لوحة "منظر في رُويل" وضعَها مونيه سنة 1858 في تلك المدينة الهادئة من مقاطعة مارن العُليا (شمالي شرق فرنسا). وانطلق بعدها في رسم المناظر خارجًا، وراح يطور أُسلوبه حتى غدا فيه رائدًا طَبَع بعدَه رسامي عصره.
أَمضى مونيه معظم حياته مَدينًا يقترض مالًا من أَفراد في أُسرته وأَصدقائه. وعلى الرغم من نجاح بعض معارضه ومطالع شهرته، تأَخَّرت مسيرته الفنية كي يكون لها مردود مادي يُريحُه. لذا مرَّ في فترات يأْس وإِحباط وملَل، إِنما كانت تتخلَّلها فترات أُخرى من الأَمل والضوء تعود له معها رغبتُه في الرسم المكثَّف، فيُمضي أَوقاتًا عذبة مع أُسرته، وفي رسم مناظر محيطة به أَطْلع بها روائع لوحات مثل "غراب العَقعَق" (رسَمها سنة 1869) ولكن رفضها "معرض باريس" 1869 (العَقْعَق طائر أَسود من فصيلة الغراب، يوشِّح البياض جزءَه الأَسفل وأَطرافَ جناحيه، مع ريشات خُضر برونزية على طرف ذيله).
كما رسم أَيضًا في السياق ذاته لوحة "عربة تشقّ طريقها المُثلج في هونفلور". وكان يرى أَن الطبيعة في الشتاء أَجملُ منها في الصيف، لأَن الشتاء يُلهمه أَكثر في رؤْية نور الشمس منعكسًا على الثلج، ما يُطلع به روائع من اللون الأَبيض المتعدد الفروقات اللونية.
في السنة نفسها لرسمه "العَقْعَق" (1869) خرج يرسم في الطبيعة مع صديقه أُوغست رنوار (1841-1919) مَن كان أَيضًا من أَعلام الإنطباعية. وكان لمونيه صداقات مع رسامين مكرَّسين في عصره: بِرت موريزو (1841-1895)، غوستاڤ كايبوت (1848-1894)، كميل بيسارو (1830-1903)، بول سيزان (1839-1906)، إِدوار مانيه (1832-1883)، إِدغار دوغا (1834-1917)، وكانت لديه في مجموعته الخاصة لوحات منهم ومن بعض أَنسبائه.
ورغب مونيه ورنوار يومًا في اصطياد موضوع حديث غير مأْلوف ذي علاقة بالترفيه والتسلية في بيئتهما، فاختارا "الواحة" (قطعة أَرض ضئيلة وسط نهر، فيها مقهى عائم). وبمقارنة لوحة مونيه مع لوحة رنوار، نجد في لوحة الأَول بُعدًا أَوسع، والوجوه فيها مغشّاة غير واضحة، لأَنه ركَّز على صفحة مياه النهر ونقائها والتماعها وحركة جريانها وما تركته في عينيه من انطباع، ما كان يومها تمهيدًا لتركيز التيار الانطباعي.
هذه اللوحة بالذات ("شروق الشمس"-سنة 1872) هي في أَساس انطلاق لفظة "الانطباعية" على هذه المدرسة من الرسم. وأَضاف إِليها مونيه آلات صناعية في خلفية اللوحة ما جعله كذلك شاهدًا على عصره، خصوصًا في تفصيله وراء البحر، على البر، ملامح من دون إِيضاحات تفصيلية، بمعنى أَنه صوَّر الحياة في حركة النور والماء بلمسات خفيفة بارعة من ريشته.
وهذا الأُسلوب – الجديد في عصره – أَبقاه مع رسامين آخرين خارج الاشتراك في معرض باريس السنوي، فقرر معهم إِنشاء بديل في معرض خاص بهم سنة 1874، متَّخذين مكانه في محترف المصوِّر الفوتوغرافي الشهير فترتئذٍ نادار (1820-1910، واسمه الحقيقي غاسبار فيليكس تورناشون).
كانت حركتهم تلك مُربِكةً الوسطَ الفني، لأَن لوحاتهم جزءٌ من حركة نشأَت تقاوم الفن الواقعي الذي أَوجدتْه الصورة الفوتوغرافية. لذلك انتفض النقاد ضدَّهم، وقام أَحدهم (لويس جوزف لوروى: 1812-1885، الصحافي في الجريدة الساخرة "كاريڤاري") فوسَمهم، ساخرًا، بــ"الانطباعيين"، لكن نقده سرعان ما سقط لأَن لفظتَه أَطلقت التيار الانطباعي الذي شكّل موجة قوية من أَعمالهم الخالدة.
بنى مونية قاربًا عائمًا سنة 1873 كي يرسم في حضن المياه بكل حريته، من دون عوائق، مُلْغيًا المسافة البرّية بينه وبين المياه. ورواجُ أَنابيب الأَلوان سهَّل عليه الخروج للعمل في الطبيعة. فقبل ذلك كانت الأَلوان ممزوجةً على خشبة الـمَلْوَن فقط، وتُرغم الرسام أَن يبقى في محترفه لا يغادره كي يظلَّ على تماسٍّ مع الأَلوان على خشبة الـمَلْوَن. كان القارب خياره الطبيعي، فهو عُرِفَ بــ"رسام النُور" و"رسام المياه"، وهذا ما ظهر جليًّا في سيرته ومسيرته: البحر، النهر، التُرعة، البحيرة الصغيرة وسواها. ولأنه كان عاشقًا عالَمَ المياه، كان يُمضي في قاربه وقتًا طويلًا هانئًا هادئًا، يرافقه أَحيانًا زميله وصديقه إِدوار مانيه الذي رسمه يومًا يرسم لوحة في قاربه، كما رسم مونيه القارب في لوحات عدة بينها على ضفاف نهر السين التي يسبح عندا قاربه.
فرح النصر الوطني
الساعة 5:15 عصر الإثنين 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 تم التوقيع على اتفاق الهدنة الذي أعلن انتصار الحلفاء وانكسار ألمانيا ونهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
صبيحة اليوم التالي (12 تشرين الثاني/نوفمبر) كتب مونيه إِلى صديقه رئيس الحكومة ووزير الحربية جورج كليمانصو: "فرحي لا يوصَف. أَكاد أُنهي لوحتين سأُوقّعهما في احتفال إِعلان النصر وأُهديهما بواسطتك إِلى الوطن". كان في نيته أَن يُهدي وطنه لحظة من السلام. بعد موافقة بول لِيُون (مدير دائرة الفنون الجميلة)، راح كليمانصو يقْنع مونيه أَلَّا تقتصر الهدية على لوحتين بل على مجموعة متجانبة من لوحات تزينية معبرِّة. لكن ذلك لم يكن سهلًا إِذ كان مونيه بدأَ يواجه حقيقة صعبة: أَن مفعول القطرات الطبية والنظارتين لم يكن للشفاء بل لتأْجيل العملية الجراحية. فهو بات فترتئذٍ شبه ضرير.
صديقي الطبيب
إِخال الوقت يقترب كي أَستسلم لمبضعك بثقة وإِيمان. إِنما – وأَعترف لك – أَستسلم بالكثير من الخوف. يمكنك إِجراء العملية الأُولى في الأُسبوع الأَول من تشرين الثاني/نوفمبر كما وعَدْتَني، والأُخرى في باريس بعد 15 يومًا. أُحسني مرتاخًا بفضل القطرات التي تجعل عينيَّ أَكثرَ انقشاعًا لا أَكثر رؤْية. لكن القطرات نفدَت عندي وأَضعتُ وصفتَك الطبية وعنوان الصيدلي. أَرجو أَن ترسل لي سريعًا بالبريد أُنبوبًا جديدًا، إِذ لا قدرة لي على وقف التقطير ولا يومًا واحدًا. شكرًا سلفًا، لكَ تحيتي واحترامي".
هكذا، بدعم وتشجيعٍ من أُسرته ومن كليمانصو، أَجرى مونيه العملية الجراحية الأُولى لعيته اليُمنى في كانون الثاني/يناير 1923، لانتزاع كثافةٍ من محيط العدسة. تحسَّنَ نظره جزئيًّا لكنه عانى من الأَلم القاسي فرفض الرضوخ للعملية الأُخرى في عينه اليُسرى، كما عانى من نقد جارح تناول أَعماله الجديدة "كأَنها غير منتهية" لأَن بياض القماشة كان يبقى ظاهرًا في بُقَعٍ عدة من اللوحة، بسبب الضعف في رؤْيته تلك البقع الصغيرة البيضاء. ولم ينفعه ترقيعها أَو ترميمها لأَن بصره كان ينطفئ تدريجيًّا.
أَخذت لوحاته تنحو إِلى غموض تجريدي خلا من دقة الإِبداع الانطباعي السابق لديه. غابت عن أَعماله الأَخيرة دقة تموجات المياه في بَـحْرته الصغيرة أَمام البيت، خصوصًا في رسمه زنابق الماء التي أخذت تظهر كأَنها بقع نجوم بعيدة في الجَلَد.
قبلذاك، حين كان مونيه يزاول التدريس، كان يقول لطلَّابه: "حين تخرجون إِلى الرسم، تناسوا ما أَمامكم من مشاهد، شجرة، بيت، حقل، … وفكِّروا هكذا: هنا شكل مربَّع صغير، أَزرق، أَو زهري، أَو شكل بيضاوي أَخضر، أو باقة من الأَصفر، وارسموها تمامًا كما تبدو لكم، بالأَلوان ذاتها، والأَشكال ذاتها، حتى تعطيكم انطباع المشهد كما يبدو أَمامكم".
وهو هذا ما انتهجه في جميع أَعماله: التقاطُ لحظة حياةٍ بالخطوط والأَلوان قبل أَن تنزلق. وحين بدأَ بصره يضعف، بات يرسم أَسرع كي يلتقط الهنيهة قبل أَن تتشوَّش رؤْيتُه أَكثر، فكان يتناول ريشته وينهال على القماشة البيضاء متناسيًا آلامه الجسدية في عينه والنفسية في باله، ورعبه من عملية جراحية لا مفرَّ له منها.
لا مفرَّ من القدَر
في 9 نيسان/أَبريل 1923، كتب إلى طبيبه:
"مررتُ بأَيام قاسية وحالات عصبية مُرَّة خفَّف منها تناوُلي حبَّات الدواء. إِنما بتُّ أَرى أَقل وأَضعف حتى حين أضع نظارتيّ. يُزعجني النور القوي في الخارج ويُرغمُني على الانحجار في عتمة غرفتي. اليوم، شعرت بوخز مرعب في عُمق عيني، وبإِحساسِ أَن فيها مياهًا تحجُب عني النظر. تحيتي لك".
وفي رسالة أُخرى وكان في السادسة والثمانين:
جيفرني في 4 كانون الثاني 1926
صديقي الطبيب،
شكرًا على تمنياتكَ، وعلى أَنك لا تنساني، وأَنا أَيضًا لا أَنساك، رغم أَنك آلَمْتَني في الزيارة الأَخيرة لكنك أَعدتَ إِليّ بعض النور في عينيّ. آمل أَن تشرِّفني بحضورك إِلى الغداء ذات يوم مشمس في جيفرني، تحيتي لك".
رغم التردد لإِيجاد وقت إِضافي كي يُنجز مجموعة لوحاته المطلوبة (19 لوحة هي اليوم مجموعة معًا في متحف الأُورانجري – باريس)، كان مونيه يسعى لإنجازها ضمن إِمكانات بصره المتهالك." كان عليه إنجازُ هذا العمل الضخم الذي بدأَه قبل 12 عامًا.
في رسائله إِلى كليمانصو يتضح يأْسه. هنا مقطع من رسالة كليمانصو يحض فيها صديقه الرسام على إِنجاز عمله الضخم:
"صديقي السيِّئ الحظ، لا يهمّ عمر الإِنسان ولا ما منه يعاني، بل عليه، فنانًا كان أَو رجلًا عاديًّا، ألّا يحنث بوعد عقَدَه، خصوصًا حين يكون تعهَّد به لفرنسا. كنت سأَدعوك إِلى الغداء هذا الأحد لكنني تراجعتُ عن الدعوة. وإِذا بقيتَ مُصرًّا على قرارك المجنون، سأَتَّخذ بدَوري قرارًا أَقسى عليَّ مما عليك (…). أَنت الآن عجوز من بصركَ لكن إِبداعك نضِر، وأَنت تُيَبِّسُهُ بعنادك، وأَرفض أَن تفعل ذلك. إِنَّ أُعجوبة حقيقية حدثَت، وتستطيع أَن ترسم أَكثر وأَكبر وأَجمل. لا أَحتاج إِلى تذكيرك بالباقي فضميرُكَ المهني، متآلفًا مع الريشة في يدك، سيذكِّرك به حتى آخر نفَس من حياتكَ. هذه هي الحقيقة ولن أُخفيها عليك".
ذلك الرجلان القويَّا الشخصية، كان أَحدُهما حاضرًا دومًا لتشجيع الآخر. لكن صداقتهما وحدها لم تكن كافية،. فمونيه، بسبب عمله المتواصل الذي أَنهكه جسديًّا ونفسيًّا، أُصيب بالتهاب رئويّ خطير أَلزمه الفراش. استدعي كليمانصو إليه على عجل، فهرع وجالسه حتى انطفأَ مونيه بين يدي صديقه كليمانصو في 5 كانون الأَول/ديسمبر 1926.
لا أَسْوَد على نعش مونيه
نهار المأْتم، حين رأَى كليمانصو نعش صديقه مغلفًا ببساط أَسْوَد، صرخ: "لا… لا… أَبدًا… لا أَسْوَد على نعش مونيه. الأَسْوَد ليس لونًا". وبسرعةٍ مزق البساط الأَسْوَد، واستلَّ قماشة ملوَّنة غطى بها النعش.
بعد بضعة أَشهر، قام ميشال (1878-1966، ثاني أَبناء مونيه) فقدَّم مجموعة اللوحات التسع عشرة إِلى "دائرة الفنون الجميلة"، وتَمَكَّنَ النحات الفرنسي كميل لوفيفر (1853-1933) من إِنجاز صالتين كبيرتين بإِشراف كليمنصو الذي رعى افتتاح المعرض في 27 أَيار 1927 وهو الذي سمَّاه "متحف كلود مونيه.
· عن النهار العربي