شاهد عيان.. هكذا هرب نوري السعيد من بيته صبيحة 14 تموز 1958

شاهد عيان.. هكذا هرب نوري السعيد من بيته صبيحة 14 تموز 1958

د. صالح البصام

عند الفجر لعلعت أصوات الرصاص فبعثت أحد الخدم ليستفسر عن أسباب إطلاق الرصاص بهذا الشكل الكثيف فرجع وهو يرتجف وأخبرني بحدوث ثورة وإحاطة الجيش لدار نوري السعيد باشا بقيادة وصفي طاهر وقد أمر باطلاق الرصاص على القصر، ومن المفارقات المؤسفة أن وصفي طاهر كان مرافقا عسكريا لنوري السعيد سابقا وكانت له معرفة بمداخل القصر ومخارجه.

وقد طلب من الجنود والمراتب عدم الدخول الى القصر وترك هذا الأمر له لمعرفته بمداخل القصر وأنه سيقوم بالقاء القبض على نوري السعيد بنفسه، ودخل وصفي طاهر القصر فوجد الدار الأرضية فارغة إلا من الخبازة التي إعتادت أن تحضّر خبز التنور الساخن لنوري السعيد والذي يفضله عند تناول الفطور، وإضافة الى الخبازة وجد سائق نوري السعيد حاضرا وقد طلب منه السعيد البقاء تلك الليلة في بيته لينقله صباحا الى المطار ليصاحب الملك فيصل الثاني في سفره الى لندن- الصحيح الى تركيا- لحضور إجتماعات مجلس حلف بغداد، وأمر وصفي طاهر الخبازة أن تسرع لايقاظ نوري السعيد من النوم وأن تخبره أن إنقلابا عسكريا حدث في البلاد، وكان وصفي طاهر يقصد من ذلك حفظ خط الرجعة مع نوري السعيد منه إذا فشل الانقلاب إذ سيدافع عن نفسه إذا تم إتهامه بمشاركة الانقلابيين مشروعهم، وأنه قام باعلام نوري السعيد بخبر الانقلاب لتمكينه من الهرب ولينقذه من المتآمرين .

وكان نوري السعيد غارقا في نوم ثقيل بسبب كبر السن والجهود التي بذلها في العمل أثناء النهار السابق عند تأديته واجباته الرسمية في مكتبه وعندما إستيقظ وعرف من الخبازة بخبر الانقلاب العسكري أخرج مسدسين كانا مخبأين في درج الى جانب سرير نومه ولم يخرج من القصر عن طريق الباب الخارجي المؤدي الى الشارع العام بل سلك الطريق الى جهة النهر بلباس نومه( البيجاما) وفي قدميه النعال ونسي أن يلبس في دوامة أرتباكه طقم أسنانه وبعد أن إنحدر من المسناة الى جهة النهر رأى زورق أحد الصيادين راسيا قريبا من مسناة داره فركب الزورق وطلب منه أن ينقله الى جانب الرصافة.

ولكن عندما إقترب من الضفة الأخرى للنهر وَجَدَ جمعا غفيرا من الناس يستمعون للمذياع وهو يذيع بيان الانقلاب بصوت عبد السلام عارف ويدعو الناس الى نصرة الثورة والخروج الى الشوارع فتوجس نوري السعيد خيفة من جموع الناس وتحديقهم باتجاه الزورق القادم صوبهم من جهة قصر نوري السعيد فطلب من الصياد الرجوع والعودة به الى جانب الكرخ وإيصاله الى دار الدكتور صالح البصام صاحب المسناة المميزة وأشار له الى داري فعاد به الصياد الى الجهة الأخرى من النهر.

وكان نوري السعيد قد تخفى في قعر الزورق ووضع عليه الصياد شبكة الصيد وعند وصول الزورق الى مسناة داري تسلّق السلم ودخل حديقة داري فاستقبله أخي المحامي مرتضى البصام الذي كان يومها يزورنا وأدخلته زوجتي الى غرفة الاستقبال وقدمت له طعام الافطار، وفي هذه الأثناء كنا نراقب الشارع فوجدناه بعد قليل وقد إمتلأ بالناس والجنود الباحثين عن نوري السعيد . وكانت الدقائق تمر بثقل شديد وكانت القلوب ترتعش لهول ما سيقع علينا جميعا لو عرف الجنود والناس بوجود نوري في دارنا، وقد كان الخوف يعم الجميع والرغبة العميقة بانهاء هذا الأمر بسرعة، وكانت كل المؤشرات تدلل على أنهم عما قريب سيدخلون داري للتفتيش عنه فارتأيت أن يتم نقله الى إحدى دورنا في مدينة الكاظمية حفاظا على حياته ومن محاسن المصادفات وصول إبن عمي المحامي صادق البصام الى دارنا قادما من الكاظمية ليطمئن على سلامتنا خاصة بعد سماعه أخبار إحاطة الجيش لدار نوري السعيد القريب من داري، فطلبت إحضار سائق سيارتي حسن الذي كان يسكن قريبا من داري، وأوضحت لابن عمي خطورة الموقف ووجود نوري السعيد في دارنا وإحتمالات تعرض دارنا في كل لحظة الى التفتيش وطلبت منه أن يصحبه مع سائقي وسيارتي لغرض نقله الى داره في الكاظمية حالا فشاركنا مشاعرنا في الخوف من الخطر المحدق بحياة نوري السعيد خصوصا وأن الوضع الأمني في بغداد يزداد سوءا كل لحظة والغوغاء يسيطرون على الشوارع ويطالبون بإعدام رجال الحكم الملكي ومفارز التفتيش يزداد عددها كلما تقدم الوقت باحثين عن نوري السعيد ففكرنا بضرورة أن يلبس ( نوري) عباءة نسائية كالتي تلبسها مربية أطفالي ( فهيمة) وتجلس المربية الى جواره في المقعد الخلفي من السيارة ويجلس إبن عمي صادق البصام الى جانب السائق ونفذنا الفكرة بسرعة وإنطلقت السيارة بهم صوب مدينة الكاظمية .

ومن المصادفات السيئة لهم أن إنطلاقهم جاء بعد أن أذيع بيان منع التجول وعندما وصلت السيارة قريبا من دار الاذاعة أسرع السائق من إنطلاقها ومن دون أن يقف عند مفارز التفتيش التي كانت ملأى بالجنود وكانوا منهمكين بتفتيش السيارات التي تمر في الشارع وبهذه المجازفة من السائق وصلوا سالمين الى دار صادق البصام دون أن يعلم أحد بهوية الذي تحمله السيارة وإستضافه إبن عمي في غرفة خاصة مزودة بما يلزم لراحته وأحضر له جهاز راديو ليتابع الأخبار وكان كثير السؤال عن حياة الملك فيصل الثاني وكثير التطلع الى السماء منتظرا وصول الطائرات الحربية من جانب دول ميثاق بغداد لمساعدة النظام الملكي ونجدته من الأوضاع غير الطبيعية التي خلقها الانقلاب العسكري حسب بنود الميثاق وبقي ليلته في دار صادق البصام وكانت تلك الليلة هي ليلة 14 تموز وبقيت سيارتي والمربية والسائق في معيته خوفا من تفشي سر إنتقاله الى الكاظمية عن طريق السائق والمربية الى أسرتيهما لو تركناهما يعودان الى بيتيهما وكان هذا أجراء إحترازيا ضروريا وعمدت كذلك بعد أن إطمأننت على نجاة نوري السعيد وأنتقاله الى الكاظمية بأمان الى إبقاء أولادي والخدم والحارس في داري وأخذت معي بستاني حديقتي الايراني الجنسية وقد كان الوحيد الذي كنت أخشى من إفشائه سر وصول نوري السعيد باشا الى داري ومغادرته الى الكاظمية من دون باقي العاملين في داري وهم خادم وطباخ ومربية أولاد وخادمة وحارس وسائق لذلك لأن الحكومة الانقلابية أعلنت في المذياع عن جائزة قدرها عشرة آلاف دينار لمن يخبر عن مكان نوري السعيد حيا أو ميتا وكان هذا المبلغ مغريا جدا لعامة الناس ولمن هم من أمثال العاملين في داري ولكن أولئك الناس الذين كنت أستخدمهم في داري لم يغرهم مبلغ الجائزة الكبير ولم يخبر أحد منهم عن مكان نوري السعيد باشا وبينما كنت مع زوجتي في دار أخي وإذا بثلّة من الجند لا يقل عددهم عن عشرين جنديا وأربعة ضباط من المكلفين بالبحث عن نوري السعيد باشا تداهم الدار عند الغروب وعرفنا أنهم فتشوا داري قبل أن يأتوا الينا وعبثوا بالدار وكسروا رخام غرفة الاستقبال مفتشين عن ممر سري يوصل داري بدار نوري السعيد باشا وإنتشر بعد ذلك الجنود وضباط الصف في الحديقة باحثين عن أثر يقودهم الى ما يبحثون عنه .

قبل الغروب بقليل طرق الباب في دار الدكتور صالح البصام، فدخل منها عدد من الشرطة ومعهم الصياد المسن وولده، ثم بدأ المحقق في إستجواب الحاضرين. لقد وصف الدكتور صالح إرتباكه وحيرته عندما لمح الصياد، وإعتقد بأنه فضح الأمر حتما لقبض الجائزة الموعودة، فظل واقفا الى جوار أخيه مرتضى متكئا على الحائط الخلفي، وفوض أمره لله، نظر المحقق اليه قبل أن نجلس على مقعد مقابل ثم نظر الى الصياد وسأله مبتسما: هل تعرف هؤلاء يابوي؟ وعند سماع السؤال إرتعدت فرائص الدكتور وظن أن الأمر إنتهى ، وإذا بالرجل المسن يهز رأسه بالنفي قائلا: لم أرهما في حياتي.

وأضاف يقول لقد سبق لك ياسيدي أن سألتني ونحن في الخارج عن نوري السعيد فأجبتك بأنني لم أسمع عنه فقط ولكنني لم اره . أما هؤلاء فإنني لم أسمع عنهم ولم أرهم من قبل.

وهنا أعاد المحقق السؤال وأضاف يقول: أنك يابوي تجوب دجلة كل يوم منذ الفجر فلا بد أن تكون رأيت شيئا جديدا اليوم في الصباح، ثم أخرج صكا من جيبه ولوح به قائلا: أمامك صك بعشرة آلاف دينار يابوي، فإعترف بما تعلم. وهنا أطرق الرجل المسن برأسه الى الارض ، فإضطرب الدكتور البصام وظن أن إغراء المال أثرّ في نفس الرجل، وإذا بالصياد يشير الى لحيته البيضاء قائلا: أنظر اليّ يا سيدي أترى لحيتي وشيب رأسي؟ إن إحدى قدمي في القبر ياولدي، كيف يمكنني أن أواجه ربي إذا إفتريت في سبيل قبض مال حرام؟ بالله عليك، إعفيني عن الجواب ياسيدي. لقد سبق أن قلت لك بأنني لا أعلم شيئا قط. ولم أر أحدا ممن ذكرتهم قبل الآن في حياتي وكفى. ياسيدي، وعند سماع قول الصياد بهذه اللهجة الحاسمة تنفس الدكتور البصام الصعداء، ولكنه ظلّ مرتبكا إذ كان يخشى أن يعترف أحد الخدم بما جرى عندما إتجه إستجواب المحققين الى الخدم .

( د. صالح البصام، مذكرات واسرار هروب نوري السعيد)