الرحالة البريطانية فريا ستارك في كربلاء

الرحالة البريطانية فريا ستارك في كربلاء

ابتسام حمود محمد الحربي

في الاول من نيسان عام 1937 زارت فريا ستارك العراق للمرة الثانية، ونزلت هذه المرة ضيفة في بيت سندرسن تراقب دجلة وهو يرتفع يوما بعد يوم حتى ان امواجه المخلوطة بترابة الاصفر ترتطم بالسدود المعمولة من اكياس الرمل التي تحمي المدينة.

وسقطت فريا ستارك طريحة الفراش نتيجة الأرهاق، اذ زارت معسكر الجيش في الهندية الواقع بين نهر دجلة وديالى الذي سلم فيما بعد للحكومة العراقية، واخيرا دمره الفيضان، فخضعت فريا ستارك لمدة اربعة عشر يوما للعلاج، وكانت تتناول طعام العشاء في الشرفة المطلة على نهر دجلة مع صالح جبر الذي اصبح فيما بعد رئيس وزراء في العراق، ومنذ ذلك الحين عرفت فيه التوجيه والقدرة والتواضع مثل نوري باشا والاخرين، واصبح صالح جبر صديقاً لفريا ستارك خلال الحرب.

وعندما كانت فريا ستارك في منطقة الكاظمية، تولدت لديها رغبة لزيارة العتبات المقدسة، ولكونها مسيحية، طلبت من صديقها نوري السعيد مساعدتها لتحقيق هذه الرغبة، وذلك لعدم السماح للمسيحيين بزيارتها، لذا تمت زيارة العتبات المقدسة في ساعة متأخرة من الليل في شهر رمضان، اذ تبقى هذه العتبات مفتوحة، وان الضوء القاتم سوف يجعل الامور تكون اسهل، وقد سهل نوري السعيد الزيارة، حيث ذهبت مع اثنتان من اخوات نوري عن طريق الترام برفقه الحجاج الى النجف وكربلاء بعد ان ارتدت ملابس سوداء وبوشية لتغطية الوجه وعباءة تغطي مقدمة الرأس والاكتاف وجملت عينيها بخط سميك من الكحل، لكي تتمكن من رفع البوشية عن وجهها في حالة عدم وجود رجال، وعند الوصول الى دار الاصدقاء الشيعة، كان سيد البيت مهندساً أكمل دراسته في مصر، كما درس اخوه الاصغر القانون في الأسكندرية، وزوجة المهندس التي رافقت فريا ستارك، واختا نوري السعيد في الزيارة سبق ان ادخلوا زواراً مسيحيين الى العتبات المقدسة، لكن لم يسبق لهم ان أدخلوا زواراً اوربيين قبل فريا ستارك التي تعد اول زائر اوربي لهذه الاماكن، وقد بقيت صامتة طيلة مدة الزيارة لانها ادركت ان لهجتها سوف تخونها على الرغم من معرفتها اللغة العربية. وعند الوصول الى ضريح الامام العباس(عليه السلام) في كربلاء شاهدت رجلا يجلس القرفصاء يأخذ احذية الزوار ويضعها في الرفوف، وقد ارادت التقدم للدخول تحت الستارة الثقيلة. وعند الدخول الى القاعة، المسقفة بقطع المرايا التي تبرق بشكل قاتم مع مرايا مؤطرة بالخشب الردئ الصنع، رأت ستاراً اخر بين ابواب. مزدوجة طويلة جدا من الفضة المطروقة، مع نماذج اخرى محفورة في الواح الفضة تحيط بقبر العباس وشاهدت المحراب الداخلي للقبر، وهو عبارة عن غرفة عالية السقف مع بابين فضيين كبيرين تتدلى من سقفها الثريات الزجاجية، وعلى الارض فرشت سجادات من نوعية غير جيدة كل ذلك حول الضريح الذي يقع في وسط قفص ثلاثي من الفضة يتبارك به الناس بالتقبيل او مسحه بالايدي، وعند وقوف فريا ستارك عند القضبان ضغطت بوجهها عليها لتتمكن من رؤية تابوتين خشبيين منقوشين للائمة عبر صندوق من الزجاج محاط بقضبان حديدية. وكان الناس يأتون من افغانستان والهند، والمقاطعات البعيدة في ايران للزيارة، وكانت النساء في احدى الزوايا يتمتمن معا على الارض في عباءاتهن السوداء، بعدها تبعت فريا ستارك الامام في الضريح ومررت يديها على القضبان وحركتها ببطء يمينا ويسارا، وشعرت بجو مشحون بالعاطفة، ثم اتجهت ومن معها الى ركن صغيرة من الضريح، اذ بدأ الامام يقرأ الدعاء بينما وقف الجميع واكفهم مرفوعة الى الاعلى.

ان جمال الكلمات، وعاطفة الاخلاص حول فريا ستارك انساها كونها غريبة، بعدها غادر الجميع الضريح متجهين الى مكان الاحذية، وفي هذه الاثناء جاء حامل الماء(ماء السبيل) مع صحن نحاسي في يده الماء، فدفعت اربع عانات مثل البقية، وتعجبت فيما اذا انتهكت الحرمة بسكب الماء لكن لم يعلق احد على ما فعلت، ثم توجه الجميع خارج المكان المقدس عبر العتبة العالية الى السوق المظلم وركبوا الترام عائدين الى بغداد.

كانت هذه الزيارة الاولى لفريا ستارك الى العتبات المقدسة، تبعتها زيارات اخرى بعد ان عاشت لفترة غير قصيرة في النجف،

انتهت زيارة فريا ستارك الاولى للعراق في يوم 26 اذار 1933، اذ غادرت بغداد الساعة العاشرة مساءاً في جو ممطر عن طريق الاردن، وهي تعاني من ازمة مالية، لكنها تحمل ثروة من المشاهد التي رأتها في العراق، التي اصبحت فيما بعد مادة لمؤلفاتها وثروتها.

في ربيع عام 1937 زارت فريا ستارك النجف وكربلاء، ولم يكن هناك أي رجل او امرأة اوربية يستطيعان العيش لمدة اسبوع في ذلك الجو الديني، اذ كان من الصعب على امرأة ان تكون بتماس مع رجال الدين، اذ قابلت غرترودبيل اثنين منهم فقط، بينما سمح لفريا ستارك في بداية الامر زيارة الاذكى والالطف، وبعد مدة استطاعت مقابلة معظم علماء الدين وسمح لها بزيارتهم عدة مرات. واصبحت تعرف المدن المقدسة بشكل جيد، واستغربت لكون السلطات البريطانية قد اهملت تشجيع الزوار لهذه الاماكن.

ان مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل الى الأسس او الجذور، وهي من القصص القليلة التي لا تستطيع فريا ستارك قراءتها دون ان ينتابها البكاء. ان التاريخ توقف من ذلك اليوم في كربلاء والنجف، ان الناس يعيشون على ذكرى مقتل الحسين، وبينما كانت فريا ستارك تتجول في كربلاء، شاهدت قبة وحيدة بين الاشجار تعود الى الحر بن يزيد الرياحي، الذي منع الحسين من الرجوع الى الكوفة وقاتل هو وولده مع الحسين، فاكسبه هذا السلوك شكر وعرفان الشيعة فيما بعد.

وفي 16 ايار عام 1937، زارت كربلاء فوجدت فيها لمسة أوربية، على الرغم من عدم وجود اوربي يذكر فيها، وذلك واضح من خلال الحدائق العامة والورد والشوارع المبلطة، وعند الوصول الى نهاية الطريق شاهدت الشرق الحقيقي، فالبيوت المتقاربة، والاسواق المسقفة والناس اكثر تنوعا من النجف. وقد امضت فريا ستارك زمنا اكثر وعاشت في خليط من سحر الشرق، فكانت تنزل الى السراديب الواحد تلو الاخر للتخلص من حرارة الصيف، كما زارت قصر الاخيضر والشثاثة(عين التمر حالياً).

وفي زيارة فريا ستارك الاخيرة لكربلاء عام 1959 شاهدت التعميرات والاصلاحات جارية في الاحجار الذهبية لقبه الحسين، وهي معدودة وموزونة، وقد اعيد وضع احجار غيرها، وجرت توسيعات واصلاحات في شوارع المدينة، واستحدث مرآب لسيارات الاجرة، وكذلك الحال في الكاظمية والنجف، كما رأت العديد من الحجاج وهم يحملون موتى موضوعين في اكفان، وملفوفين بلفائف من القطن محمولين في نعش يطاف بهم حول جامع الامام علي ليدفنون في ارض قريبة، او بعيدة حسب الثمن الذي يدفع من قبل عائلة المتوفي. أحبت فريا ستارك العيش في الاماكن المقدسة، ونصحت بزيارتها لقضاء وقت من التأمل سواء على حساب الفرد الخاص، او في بيوت بعض العوائل، او العيش على الاحسان في الشوارع الضيقة، إذ كان جو المدن المقدسة يختلف عن اي شيء اخر عرفته فريا ستارك.

عن رسالة (فريا ستارك وأثرها السياسي والاجتماعي في العراق)