إعداد: ذاكرة عراقية
الأمير زيد ورئاسة الوزراء
سمعت من المرحوم محمود صبحي الدفتري احد وزراء العهد الملكي الذين استبعدوا من الحكم في الهزيع الاخير من ذلك العهد انه كان من بين الساسة العراقيين الذين استطلعت آراؤهم في اسناد رئاسة الوزارة الى الامير زيد بن الحسين الشقيق الأصغر للملك فيصل الاول والذي كان يشغل يومذاك منصب سفير في وزارة الخارجية.
وكان الباعث على هذه الاستشارة ان عبد الاله الوصي على عرش العراق يومذاك لاحظ ان اقطاب المعارضة كانوا يستلطفون الامير زيد عندما كان يتولى منصب النيابة عن الوصي خلال سفراته المتصلة الى اوروبا ولعل في اسناد الوزارة اليه ما يخلق (جسور اتصال) مع المعارضة ولكي لا يظل البلاط معتمدا في تدوير شؤون البلاد على نوري السعيد الذي كان يومذاك مغضوبا عليه بشكل غير ظاهر من قبل الوصي وحاشيته في البلاط!وذكر لي الدفتري انه نصح بعدم اسناد رئاسة الوزارة للامير زيد لان رئيس الوزراء يكون مستهدفا لهجوم المعارضة ولربما انسحب هذا الهجوم بصورة غير مباشرة على الاسرة المالكة التي ينتمي الامير زيد اليها ولست ادري ببواعث فتوى الدفتري فهل قصد بذلك ان لا يشعر الوصي عبد الاله بتعاطفه مع الامير زيد لشعوره ان الوصي غير جاد باسناد الوزارة اليه ام لانه اراد حماية الاسرة المالكة من هجوم قد تتعرض له من قبل المعارضة ولكن الذي ادريه ان الدفتري قد انقذ نفسه من (ورطة) تنجيه من التعرض لما تعرض اليه بعد معارضته لتعديل القانون الاساسي بعد الاحتلال الثاني للعراق بزيادة حقوق الملك وبالتالي الوصي على العرش بمنحه حق اقالة الوزارة اذا اصرت على السياسة التي لا يقرها عليها البلاط ولتفادي وقوع عبد الاله في المحنة التي وقع فيها يوم لم يستطع اقالة رشيد عالي الكيلاني عقب احداث مايس الامر الذي ادى الى هروب الوصي الى (الديوانية) مرة والي(عمان) مرةاخرى بحيث استغل الكيلاني هذه الفرصة – فرصة هروب الوصي- وجمع المجلس النيابي ليعزل عبد الاله من (الوصاية) وتنصيب الشريف شرف بدله على النحو الذي لا يحتاج الى التفصيل:والواقع ان المعارضة في السنوات الاخيرة من العهد الملكي قد استهدفت شن الهجوم المباشر على الوصي لانه (تفرعن) بعد فشل حركة مايس الوطنية واستخف بكل رجال الحكم وانتهزت المعارضة قيام ثورة 23 يوليو 1952 التي اطاحت بفاروق والانقلاب الذي اطاح بشكري القوتلي من رئاسة الجمهورية في سوريا لتنذر عبد الاله من المصير المماثل لمصير فاروق والقوتلي
كيف اقلعت عن التدخين؟
سمعت في الاذاعة البريطانية، باللغة العربية، حديثا عن الاقلاع عن التدخين، فحرك مني ساكنا. لقد بدأت ادخن، عندما تخرجت في المدرسة الثانوية، في السنة 1926 وكنت في السادسة عشرة، ومما عجل في مباشرتي التدخين ان السكاير قريبة مني فقد كانت امي- رحمها الله تدخن، وكانت جدتي امها، رحمها الله، تدخن ايضا وكانت السكاير في ذلك الحين كلها من نوع واحد، وهي السكاير ام الزبانة، اذ لم تكن ثمة معامل لصنع السكاير في العراق، وكانت السكاير الاجنبية فوق متناول يدي. واصابني عند التدخين في بادئ الامر، مايصيب كل مبتدئ، من غثيان ودوار ولكن شيئا واحدا، شعرت به عند تدخين اول سيكارة وهو شعرت بانني اصبحت رجلا وشعرت باذى السكاير واضرارها عند مباشرتي بتدخينها، ومنذ ذلك الحين بدأت في محاولات للاقلاع عن تدخينها. واولى محاولاتي لترك التدخين، بدأت في السنة 1927 ولكنها جميعا كانت محاولات غير ناجحة.
ويذكرني ذلك بقول الكاتب الامريكي الشهير مارك توين فقد روى لي الاخ حسين جميل، ان مارك توين قال: اني اتعجب من هؤلاء الذين يقولون ان الاقلاع عن التدخين امر صعب، فاني قد اقلعت عن التدخين مائة الف مرة تقريبا، ولم اجد صعوبة في ذلك. وللدكتور جاك عبودي شابي، الطبيب النطاسي، رأي في صعوبة الاقلاع عن التدخين وفي كون الادمان على التدخين اشد ضررا على صاحبه من الادمان على الخمر، فهو يقول ان المدمن على الخمر لايحمل عادة قنينة الخمر في جيبه،اما المدخن فيحمل دخانه في جيبه فهو اقرب موردا واشد ضررا!. وتاريخ التدخين حافل بمن اقلعوا عنه ثم عادوا اليه ومن جملتهم المرحوم الشيخ علي الشرقي: الشاعر المشهور، فقد ترك التدخين مدة، ثم عاد اليه ولما سألته عن السبب قال وجدت اني اشعر بدناءة نفس عجيبة لما تركت التدخين، اذ كلما ابصرت شخصا يدخن سيكارة هممت ان اهجم عليه، واخطفها منه، واضعها في فمي.. فرأيت ان معاناة ضرر التدخين، اخف من معاناة دناءة النفس هذه. وتعددت محاولاتي للاقلاع عن التدخين، واتخذت اشكالا وصورا فطورا اقيد نفسي بعدد محدود من السكاير، وتارة امتنع عن التدخين ساعات، ثم اعود اليه ووجدتني في كل تلك المحاولات فاشلا لا البث حتى اعود للتدخين وانا اشد رغبة فيه مما كنت قبل الاقلاع عنه!. و ظللت على هذه الحال، مايقارب الاربعين سنة وكنت اشعر بالاذى في صدري وفي عيني وفي بدني واصمم على ترك التدخين، ثم لا البث حتى ارتد خائبا. وشكوت حالي الى الحاج عبدالحسين الازري، رحمه الله، فابتسم ونظر اليّ وقال: ياعزيزي ان ما تشكو منه قد بليت به قبلك فان كل شيء يضر بالبدن من طعام وشراب وغيره، انما يحدث الضرر بعد استعماله بفترة، قد تصل الى ساعات وقد تطول الى ايام الا التدخين فان ضرره ينشأ في الحال والمدخن يصيبه الضرر، من اول نفس يتناوله من سيكارته وما وجدت رفيقا للانسان يتمنى الخلاص منه في اقرب فرصة اكثر من السيكارة وانشد رحمه الله، ابياتا للرصافي من جملتها. ان كلفتني السكارى شرب خمرتها شربت لكن دخانا من سكاراتي واخترت اهون شر للدخان وان احرقت ثوبي منه بالشرارات اني لامتص جمرا لف في ورق اذ تشربون لهيبها ملء كاسات ثم قال: اخطأ الرصافي، في زعمه ان السيكارة اهون شرا، فهي اعظم شرا من كل عادة مرذولة غيرها. *وكان صديقي، الدكتور شوكت محمود كلما فحص صدري، باشعة رونتكن، تعجب، وقال: ارى صدرك نظيفا مع انك تدخن، وهذا من العجب، اذ ان منظر صدر المدخن منظر تقذى له العيون. وازداد عدد ما ادخنه من السكاير بتقدم سني وتكاثر مشاكلي، فان الزواج والاولاد والحوادث الطارئة والهزات التي توالت على العراق، زادت في مقطوعية ما ادخن من السكاير، حتى بلغ بي الامر، انني في بعض الليالي كنت لا استطيع النوم مرتاحا الا اذا رفعت يدي الى رأسي وانا في الفراش لكي يظل القفص الصدري منفتحا. وعزمت في السنة 1965 على الاقلاع عن التدخين واتفقت انا وصديقي الدكتور جاك عبودي شابي على ترك التدخين في وقت واحد وانهاء التدخين، بانتهاء العيد، وكان انتهاؤه بنهاية يوم 3 نيسان 1965.. وقضيت ايام العيد ادخن كما اريد وكيف اريد اشعل سيكارة من سيكارة واخالف بين انواع السكاير، فعل المحب المفارق.
وفي اليوم الاخير ظللت ادخن الى الثانية بعد منتصف الليل وتركت السيكارة وصدري يصفر، مثل صفارة العسس، في شهيقه وزفيره. وانتبهت في صباح اليوم المقرر ووجدت علب السكاير في مكانها، والسكاير فيها وهي مشرعة تنظر الي، وتناغيني. وهممت ولكني تجلدت وتصبرت وتركت علب السكاير في محلها، والسكاير فيها مشروعة ونهضت فافطرت وحلقت واغتسلت ولبست ملابسي وخرجت لزيارة الدكتور جاك. *وقدم الدكتور جاك لي سيكارة، فتطلعت فيه مستغربا، وقلت له: ماهذا، الم نتفق على ترك التدخين؟. -قال نعم ولكني لم اتمكن. قلت: ذلك لانك لم تحاول. قال: اعتقد ان الامر ليس سهلا كما تحسب. قلت: قد تركت السيكارة واقلعت عن التدخين، وانتهى الامر.