من حوادث كربلاء المثيرة في منتصف القرن التاسع عشر

من حوادث كربلاء المثيرة في منتصف القرن التاسع عشر

عبد الحسين الكليدار

أبتدأ هذا الدور بعد سقوط داود وولاية اللاز علي رضا عند مفتتح السادس والأربعون بعد المئتين والألف، فقام هذا الوزير بشؤون إصلاح اُمور العراق، ولم شعثها من ترك حاميات الجند في البلاد، وقد نصب الحكّام بها، وبذل الجهد في سبيل تأمين السبل والطرق, إلاّ أنّه لم يدرك المقصود؛ للهوى الذي كان في نفوس أهليه، وما كان لهم من الاستحقار للقوّة الحاكمة؛ إذ إنّ النفوس قد اشرأبت إلى الحرية عند زمن الانحلال في أواخر الدور الثاني، وزاد ذلك أنّ بعض الولايات التي استقلّت في عهد داود قد بقيت على انفصالها.

وخلاصة القول: إنّ أيام علي رضا على طول زمنها لم تنتج تمام ما قصده, إلاّ أنّها انصرمت بهدوء وسلام، وفي أواخر أيامه توفي السلطان محمود وقام مقامه عبد المجيد، وانشغل بادئ أمره في استرجاع البلاد الشامية، وانتهى الأمر إلى عقد الصلح وختم الأمر بينه وبين المصري محمّد علي، ثم عطف نظره نحو العراق، وبعث للقبض على زمام اُمورها محمّد نجيب, فأدرك هذا بذكائه ما حبس التوفيق عن سلفه؛ إذ لم تأت بطائل إصلاحته؛ لِما في الأنوف من الشمخرة والخيلاء.

فقصد أوّلاً إلى تأديب بني حسن والفتلة وطفيل داخل قضاء الهندية، فاقتصر في حربهم على حبس جريان ماء الفرات عنهم، ومنعه من السيلان في شط الهندي أصف الدولة, إلاّ أنّه لم يقف على طائل بالرغم من تكبّده لخسائر فادحة، وعالج ذلك بنفسه, إلاّ أنّ الطبيعة كانت أقوى منه؛ إذ انفلق السدّ ولم يمتثل الماء لأمره. ثمّ ساق جيوشاً يرأسها سعد الله ـ أحد قواده ـ وأمرهم بمحاصرة كربلاء وإباحتها في واقعة سنأتي بتفصيلها، فهابه العراقيون عندما توالت على الأطراف هجماته، فتسنّى له من إجراء بعض الإصلاح من التشكيلات في ألويتها وأقضيتها ونواحيها من نصب اُمراء, وترك الجند في البلاد..

حادثة المناخور

وفي سنة ١٢٤١ هـ وقعت واقعة عظيمة تُعرف بواقعة المناخور ـ أمير الآخور ـ أي أمير الاصطبل، وذلك إنّ الدولة العثمانيّة كانت في ذلك الزمن ضعيفة؛ لاحتلال الجيش الإنكشاري، واستقلال البلاد القاصية، وانشغالها بمحاربة العصاة في البلقان، وطموح محمّد علي والي مصر إلى الاستقلال، واستقلال علي باشا (ذلتلي تبه) في ألبانيا. وكان والياً على العراق آن ذاك داود باشا وكان تقياً عادلاً ورعاً، مشهوراً بالدهاء وفرط الذكاء، إلاّ أنّه كان شديد الحرص على الانسلاخ من جسم الدولة، والاستقلال بالعراق أسوة بمَنْ تقدّمه؛ فسعى بادئ ذي بدئ إلى جلب قلوب الأهالي بما أنشأ من العمارات والبنايات, والجوامع والتكايا، وقرّب علماء العراق وبالغ في إكرامهم، ونظم جيشاً كبيراً وسلّحه على الطراز الحديث.

حينئذ قام بعد ذلك فسيّر جيشاً ضخماً بقيادة أمير اصطبله، وكانت عشيرة عقيل تعضده, فأخضع القائد الحلّة واستباح حماها، ثمّ جاء كربلاء فحاصرها ثمانية عشر شهراً, ولم يقوَ على افتتاحها؛ لحصانة سورها ومناعة معاقلها، ولمّا رأى ذلك أقلع عنها, ثمّ كرّ عليها ثانياً وثالثاً فلم يفز بأمنيته إلاّ بعد حصار طالت مدّته أربع سنوات؛ من سنة ١٢٤١ إلى سنة ١٢٤٥، وكانت نتيجتها أن أسر الجيش نقيب كربلاء فسجنه داود باشا في بغداد.

حادثة نجيب باشا

وفي سنة (١٢٥٨ هـ) شق أهالي كربلاء عصا الطاعة على الدولة، وأبوا أداء الضرائب والمسكوس، وكان والي العراق نجيب باشا قد جهّز جيشاً بقيادة سعد الله باشا وسيره إلى كربلاء, فحاصره حصاراً شديداً، وأمطر المدينة بوابل قنابله, ولم يساعده الحظّ في افتتاحها؛ لأنّ سورها كان منيعاً جدّاً، وقلاعها محكمة لا يمكن للقائد الدنو منها.

ولمّا أعيت به الحيل الحربية التجأ إلى الخداع فأعطى الأمان للعصاة، وضمن لهم عفو الحكومة فأخلوا القلاع وجاؤوا طائعين، فقبض عليهم, وسلّط المدافع على الجهة الشرقية؛ فهدم السور، وأصلى المدينة ناراً حامية، ففتحها وارتكب فيها كلّ فظاعة وشناعة، ودخل بجيشه إلى الصحن العباسي, وقتل كلّ مَنْ لاذ بالقبر الشريف، وبهذه الموبقات عادت سلطة الحكومة إلى تلك الربوع والله علاّم الغيوب.

فتنة علي هدلة

وفي سنة (١٢٩٣ هـ) ظهرت فتنة في كربلاء عُرفت بفتنة علي هدلة، وذلك إنّ جماعة من المفسدين حرصت الأهالي على مناوأة الحكومة، وكانت أفكار الأهالي مستعدة لقبولها، فألفت عصابة بقيادة علي هدلة وقابلت الجيش العثماني ودمرته في مواقع متعددة، ولمّا رنّ صدى هذه الحادثة في الأستانة قلق السلطان المخلوع وأصدر إرادة سنية بإرسال جيش إلى كربلاء وهدمها وقتل مَنْ فيها عن بكرة أبيهم.

وأناط تنفيذ هذه المهمّة بعاكف باشا والي بغداد والمشير حسين فوزي باشا، وكان هذا قائداً عاماً للجيش, فجاء الاثنان إلى كربلاء يصحبهما أحد نقباء بغداد السابقين، وضربوا المضارب قرب المدينة, فلم ير الوالي في المدينة آثار العصيان والتمرّد، وقد علم بعد البحث الطويل أنّ العصاة عصابة ارتكبت إثماً واقترفت ذنباً يطاردها الجيش، وليس من العدل هدم المدينة وتنفيذ الإرادة السنية على سكّانها، وأخذ البريء بجريرة المذنب. فأحجم عن تنفيذ الأوامر, وفاتح القائد العام فأبى هذا إلاّ الإصرار على تنفيذ الأوامر، فنجم من ذلك خلاف بينهما, فراجع الأستانة وخاطبها بالأمر، وبعد أخذ ورد صدر الأمر بالعفو, فرحل الجيش عنها بعد أن قبض على مثيري الفتنة وموقدي نيرانها وقادهم إلى بغداد, وهناك ألقاهم في أعماق السجون والعذاب.

عن كتاب (بغية النبلاء في تاريخ كربلاء)