عندما أصبحت متصرف لواء كربلاء سنة 1922

عندما أصبحت متصرف لواء كربلاء سنة 1922

عبد العزيز القصاب

صدر أمر نقلي إلى كربلاء في 30 كانون الثاني 1922 والالتحاق بوظيفتي الجديدة متصرفا للواء كربلاء بسرعة. وعلمت في بغداد ان سبب الاهتمام والاستعجال هو الخلاف بين الملك فيصل ودار الاعتماد، فجلالته لم يكن راغباً في استمرار المتصرف السابق، عبد الحميد اسد خان، في وظيفته لعلاقته الوثيقة بدار الاعتماد، وعين حديثاً الحاج سليم، قائم مقام الكاظمية، متصرفا عوضا عنه.

وما إن وصل الحاج سليم الى كربلاء حتى اوعزت دار الاعتماد الى (المستر موكي) معاون مستشار الداخلية لارجاعه حالا وفي اليوم نفسه، متحدية بذلك الملك فيصل ووزير داخليته. وقد ادت لهذه الحكاية الى توتر شديد بين البلاط ودار الاعتماد، واستشار الطرفان رئيس الوزراء للفصل بينهما. اشار النقيب بان لا يبقى اسد خان في وظيفته ولا ان يرجع الحاج سليم الى كربلاء، ورشحني للمنصب تفاديا للمشاكل. فوافق الطرفان وتقرر ارسالي بسرعة قبل ان ينتشر خبر الخلاف بين الناس.قبلت بالامر الواقع وسافرت الى كربلاء، وكان في استقبالي هناك سادة اللواء واشرافه ورؤساء القبائل المعارضة لعبد الحميد خان، وباشرت عملي في 16 شباط 1922.

تدخلات (مس بل)

اخبرني قائم مقام النجف، ليلة 26 حزيران 1922 عن مقتل الشرطي عبد الحسين من مراتب مخفر الدرعية ومحلة العمارات اثناء قيامه بواجبه في حراسة باب الدرعية. وطلب القائم مقام من متعهد الحراسة (كردي بن عطية ابو كلل) الالتزام بتعهده وتسليم المجرمين في ظرف عشرة ايام. واوقف المتعهد وحارس المحلة كاجراء احتياطي الى حين القبض على المجرمين، وامر بالقاء القبض على بعض الصبية المشاغبين المعروفين بسوء اخلاقهم، لمحاولتهم الهرب بعد وقوع الجريمة مما اثار الشكوك حولهم.

وفي اليوم التالي، جاء مفتش الشرطة (الكابتن روول) واطلق سراح الموقوفين من غير إخبار القائم مقام، وعندما علمت بهذا امرت باعادة المتهمين الى الموقف حالا، وارسلت حسام الدين جمعة، مدير الشرطة، الى النجف للمساعدة في التحقيق وطلبت من توفيق الخالدي، وزير الداخلية، منع المفتش الانكليزي من التدخل بالامور الادارية في اللواء لان في ذلك إساءة الى سمعة الحكومة وهيبتها وقد اثار تدخل المفتش امتعاض اهل النجف وعلمائها واستهجنوه وطالبوا القائم مقام بالالتزام بالعدالة وبما تقرره المحاكم، وطلبوا مني الذهاب الى النجف لاصلاح التصرفات الادارية الخاطئة فيها.

ومن النجف، اتصلت بوزارة الداخلية وبمفتشية الشرطة العامة في بغداد ولم اتلق جوابا فاضطررت الى السفر واتصلت بوزارة الداخلية وبمفتشية الشرطة التي كانت بعدة نوري السعيد. وطلبت اعفائي من متصرفية كربلاء ان لم يوافقوا على تبديل المفتش (الكابتن روول(.

كان رجال الداخلية يؤملونني من غير نتيجة. وفي الوقت ذاته، اخبرني سكرتير الداخلية بان (المس بل تطلب حضوري الى دار الاعتماد، استقبلتني هناك وفاتحتني بما يلي حرفيا: "اراك تصر على تنحية الكابتن البريطاني في الحلة، فمن اين لك هذا الحق؟ ولماذا تتدخل في القضايا المتعلقة بالبريطانيين؟". ما إن سمعت ذلك حتى صرخت بوجهها: "إني متصرف اللواء المسؤول عن شؤون ادارته العامة واهمها القضايا التي تمس الامن، واني لا اقبل منك هذا الكلام واحتج على تدخلك"، وخرجت من غرفتها غاضبا. لحقت بي الى الخارج وامسكت بسترتي وهي تقول: "العفو لا تزعل، وانا لا اقصد شيئا من هذا، ارجع لنتفاهم". لم التفت لطلبها وتركت دار الاعتماد مسرعا الى وزارة الداخلية، وقدمت احتجاجي على هذا التدخل وطلبت قبول استقالتي ان لم ينقل (الكابتن روول) عقابا على عمله.

قام (كورنواليس) مستشار وزارة الداخلية واتصل بالمندوب السامي (برسي كوكس) تلفونيا واخبره بما جرى. وابدى المندوب السامي لي اسفه على ما حدث، وقال انه سيطلب (المس بل) لينبهها على خطئها. واتصل المندوب السامي مرة اخرى بوزير الداخلية واخبره ان (المس بل) مستعدة لتقديم الترضية والاعتذار من عبد العزيز القصاب، وما عليه إلا ان يعين المحل الذي يريده للقائها. اجبته: "اني لا اريد ان اراها ولا اريد اعتذارها" وان نقل الكابتن فقط سيكون كافيا لي.

رجعت الى كربلاء وجاءني (الكابتن روول) ومعه (الكابتن لودز) الذي كنت اعرفه من الكوت، واعترف الاول بخطئه وطلب المعذرة عما بدر منه. وهذا انتهت القضية، واستمرت الادارة بتحقيق العدالة بموجب القانون ومن غير تدخل خارجي.

متصرف الحلة في النجف

وصل النجف بعد يوم واحد علي جودة الايوبي، متصرف الحلة، يصاحبه خيري الهنداوي، قائم مقام الشامية، وشاكر محمود، قائم مقام (ابو صخير)، مع بعض الموظفين، وقاموا بزيارتي في اليوم نفسه. رحبت بهم، وبينت ان جماعة الغري طلبت مني اجازة اقامة حفلة تكريم لهم. وبالنظر لتوتر الاوضاع، كلفتني الوزارة بمنع الاجتماعات والاحتفالات العامة، ولذا رجوتهم تأجيل الحفل حتى تنقض الجماهير وتنتهي الزيارة. لكن علي جودة رفض الاقتراح وقال: "لا يمكنني رفض جماعة الغري". كررت طلبي بان يعيد النظر في هذا الاجتماع حفظا للامن والسلامة العامة. ثم راجعني طالبو الاجازة مرة اخرى فاجزتهم لاقامة الحفل بعد ان اكدت عليهم ضرورة المحافظة على الامن والنظام. وطلبوا مني، قبل مغادرتهم، حضوري احتفالهم في اليوم التالي فانبت عني مدير شرطة اللواء. القيت في الحفل قصائد وخطب تكريمية للمحتفى به وانتهى من غير وقوع ما كنت احذره واخشاه.

العشائر تطالب بابعاد المستشارين الانكليز

جاءني في الساعة الثامنة من ليلة زيارة الغدير، رسول من المجتهد السيد ابو الحسن الاصفهاني، يدعوني لحضور اجتماع لرؤساء العشائر في بيته والاستماع الى مطالبهم، على ان يكون حضوري منفردا. ذهبت الى الدار مصطحبا صالح الحمام، مدير شرطة اللواء، يتقدمنا خادم يحمل فانوسا، وكانت الطرق تعج بالناس وافراد الشرطة. وعند وصولي منعطفا الى الطريق على مقربة من الدار، طلبت من مدير الشرطة تركي لوحدي وانتظاري الى حين رجوعي. طرقت الباب، ففتحه لي شخص اثار علي بان اترك الخادم واصعد بمفردي الى السطح، حيث كان الاجتماع. كان سطح الدار مزدحما، وبعد السلام دعيت للجلوس الى جانب السيد ابو الحسن، وكان الى جانبه صديقي العالم الورع والوطني الفاضل الشيخ عبد الكريم الجزائري.

عرفت من الحاضرين السيد محسن ابو طبيخ، وشقيقه جعفر، وعبد الواحد الحاج سكر، وعبادي الحسين، وعلوان الياسري، وناصر الحسين، وشعلان او الجون (رئيس الظوالم) وكاظم العوادي وغيرهم.

كان السيد الاصفهاني اول من تكلم، قال: ان لدى السيد محسن ابو طبيخ امورا يريد عرضها عليكم. قال السيد محسن: "كنت في بغداد وقابلت (كورنواليس)، مستشار الداخلية، وعرضت عليه شكاوانا من المستشارين الانكليز في الالوية لتعسفهم وجبروتهم وسخطهم على الناس، وطالبت باقصائهم. وبعد كلام طويل وعد المستشار بالاستغناء عنهم وهو لم يف بوعده لحد الان. نحن نريد منك ان تطلب من الداخلية تنفيذ ما وعدنا به حالا والا فسنكون في حل مما سيحدث في البلاد".

رد الحكومة على طلب العشائر

ارسلت برقية رمزية مستعجلة الى وزارة الداخلية، وتلقيت في اليوم التالي برقية من (كورنوالس) تضمنت نفي ما ادعاه السيد محسن ابو طبيخ وعدم وجود وعد منه لاقصاء المستشارين، وطلب مني تكذيب الخبر حالا.

كان من رأيي ان من الحكمة التريث والكتمان في إعلان هذا الجواب، فقد يدفع الجماهير للاجتماعات الصاخبة والخطب والقصائد المثيرة. وفي عصر ذلك اليوم، اجتمع عندي في دار البلدية عدد كبير من السادة والسيوخ منهم: السيد علوان الياسري وكاظم العوادي، ودام اجتماعي بهم حتى المغرب. سألوني إن كان جواب الداخلية قد وصل، وحرت في الاجابة فان قلت (كلا) خالفت الحقيقة، وان قلت (نعم) اوقدت النار في الازمة. اجبتهم: باني سابلغهم بالجواب قريبا. تركت مجلسهم وصعدت الى سطح الدائرة لافكر بما يجب علي عمله بهدوء، وجال بخاطري زيارة بعض رؤساء العشائر ممن تربطني بهم صداقة متينة لابلغهم بنص جواب الداخلية قبل ان ابلغ اتباعهم. سالت من حولي عن محل سكناهم، فذكر لي احدهم محل اقامة شعلان ابو الجون وناصر الحسين، وطلبت منهم ان يفتشوا عن محلات اقامة الاخرين، وعادوا واخبروني ان الجميع يؤدون صلاة المغرب في الصحن. وبعد مرور ساعة، سمعت اصوات سيارات ملفتة للنظر وجموع تغادر النجف من تحت دار البلدية. سألت معاون الشرطة، فاجاب: "ان رؤساء العشائر يخرجون بسياراتهم وخيولهم". وبقيت اراقب عن موقعي هذه المواكب وهي تغادر لمدة ثلاث ساعات.

الملك فيصل وراء الاحداث

علمت بعد مدة ان متصرف الحلة، علي جودة الايوبي، قد جاء للنجف بتكليف خاص من الملك فيصل الاول، وقد ادى هذا الى خلاف بين البلاط ودار الاعتماد، فصل بعده كل من علي جودة ومستشار الحلة، (الميجور دكسن)، من منصبيهما.

كما علمت بان رؤساء العشائر الذين غادروا النجف في تلك الليلة قد اجتمعوا ثانية في (ابي صخير) وحرروا مضبطة قدموها الى وزارة الداخلية تتضمن شكوى مني، لاعتقادهم باني كنت اقصد اعتقالهم عندما فتشت عن محلات اقامتهم، في الوقت الذي لم يقوموا فيه باي عمل يخل بالامن. وعندما سألتني وزارة الداخلية كذبت هذا الادعاء.

عن (مذكرات القصاب)