مسارات ميلان كونديرا

مسارات ميلان كونديرا

إسكندر حبش

طويل ومتعدد، هو مسار الروائي الراحل «ميلان كونديرا»، الذي وافته المنيّة في 11 يوليو الحالي، عن عمر يناهز 94 عاما (مواليد 1929 في برنو - مقاطعة مورافيا، تشيكوسلوفاكيا). طويل، إذ امتدّ على مدى قرن من الزمان (تقريبا) بكلّ ما حمله من انزياحات وأفكار،

كما أنه متعدد، بكونه يأتي من «عصر مختلف»، ومن بقعة جغرافية لها خاصيتها الفكرية والاجتماعية، شدّد على تسميتها بـــ «أوروبا الوسطى»؛ يأتي من عالم لم يتوقف عن التبدل والتحول، حتى أن البلاد التي أتى منها لم تعد موجودة، وأصبحت في غياهب الذاكرة والتاريخ. ومع ذلك لم تكن كتابات كونديرا سوى محاولة لهدم تاريخ، (إذا جاز القول)، لا يشعر معه بأي نوع من الحنين. فالروائي، بالنسبة إلى كونديرا، «ليس خادم المؤرخين»، على قوله في حديث صحفي في مجلة «الإكسبرس» الفرنسية في 3 أبريل 2003.

«الروائي ليس خادم المؤرخين»... جملة، عدا عن أهميتها، تطرح تساؤلا عميقا ليس حول الفن الروائي فقط، وإنما حول عملية الكتابة بأسرها، وإن كان كونديرا يفضل دائما استعمال كلمة «الروائي» ــ لا «الكاتب» ــ لكن ضمن الشروط التي أعطاها لفن الرواية، باعتبارها وسيلة معرفة كلية وجمالية و«دعوة فكرية» حقيقية. بالطبع ثمة «برنامج متطلب» في مشروع كونديرا هذا، المليء بالشاعرية والتأمل في الوجود؛ وهو «مشروع» وصفه في كتابه «الوصايا المغدورة» بأنه «طريقة، حكمة، موقف يستبعد أي تماهٍ مع السياسة، والدين، والأيديولوجية، والأخلاق، والجماعة». من هنا، كان ذلك المدافع الدؤوب وحتى الشرس عن الرواية والحق في أن تكون (الرواية) رحلة فكرية وشخصية معقدة.

***

أعود لأطرح السؤال: هل للكتابة أي علاقة بالتاريخ؟ من الأفكار الشائعة والقاتلة للأدب أن يتحول الكاتب (الروائي تحديدا) إلى راو للتاريخ أو أن يعلق عليه ويحلله. كلام كونديرا، يتقاطع بدوره مع ما قاله روائي آخر: المكسيكي كارلوس فوينتس، من أن الرواية ليست التاريخ وإنما هي الجغرافيا. من هنا ثمة سؤال أساسي: ماذا يكتب الروائي؟

قد تكون إحدى الإجابات الممكنة على قول كونديرا، وهي من الإجابات التي أنحاز إليها، هي عمله على اكتشاف الملامح المجهولة في الوجود الإنساني، فالأحداث التاريخية الكبرى، بالنسبة إليه، هي بمثابة «كشاف ضوئي» ينير فجأة هذه الملامح المخفية كي يزيل عنها هذه الأقنعة».

***

أحاول أن أسوق السؤال هنا حول جزء من الرواية العربية المعاصرة (لا كلها بالتأكيد)؛ لو حاولنا أن نستعيد روايات عربية عرفت «نجاحا» ما، فهل نجد إنها كانت تبعد فعلا عن رواية التاريخ؟ عديدة هي مشاريع الروائيين العرب لإعادة زيارة التاريخ لكنهم هل نجحوا بذلك في صناعة أدب حقيقي وكبير؟

المشكلة الكبرى بلا شك، كانت في جعلهم التاريخ هو الطاغي. أي إعادة كتابة هذه الملامح الموجودة أصلا، وإن تحججوا بأنهم يرغبون في إلقاء الضوء على التاريخ المنسي والمخفي الذي لم يكتب. لكن أين كان ذلك الوجود الإنساني الذي يتأسس التاريخ من أجله؟ كان مغيبا بلا شك. لا لأننا لم نعرف كيف نخرج من تاريخنا، بل لأننا لم نستطع أن نوقف مدّ الحنين الذي يلفنا. رواياتنا التي أرادت أن تروي «التاريخ»، كانت تقع في هذا الحنين الدائم، كانت تريد الحديث عن هذه العودة الكبرى، عن هذه العودة الأبدية، (فيما لو استعملنا عبارة نيتشه)، في حين أن الأدب برأيي هو هذه القطيعة الجذرية، مع كل أشكال الذاكرة والحنين والتاريخ. ربما التاريخ الوحيد المقبول هو التاريخ الشخصي، بيد أن كتاباتنا تنحو دائما إلى تغييب الأنا لصالح «النحن». ما من «نحن» في الأدب (على قول رابليه) فأوهام الجماعة لا تستطيع تأسيس ذلك الحيز الإنساني «الذي علينا أن نزيل الأقنعة عنه»، على قول الروائي التشيكي الأصل.

***

استند كونديرا في مشروعه الروائي على تقليد كامل من «الأدب العالمي» حيث لم يتوقف أبدا عن التعبير عن ارتباطه به، من ثربانتس إلى فوينتيس، ومن غوته إلى ديدرو، ومن كافكا إلى موزيل، لذلك تتساءل الرواية عند كونديرا، وبحدّة، عن المناطق والرهانات والزمنية الواقعة تحت التوتر التاريخي، المهدد أحيانًا بالإرهاق الداخلي، وفي أحيان أخرى بالعدوان الخارجي.

من هنا قد نفهم التزامه الشخصي ببعض القضايا السياسية والاجتماعية (حتى وإن كنّا على نقيض معها)، الذي أتى على قدر كبير من الحماسة، وكأنه كان بذلك، يذكر بنوع من الإلحاح النموذجي، بفكرة الدفاع عن حقوق المتخيل غير القابلة للتقادم. هل لذلك تخلى عن مسقط رأسه، وحاز جنسية أخرى، بل حتى أنه بدل لغته التي كان يكتب فيها (كما نعرف رواياته الأخيرة كتبها مباشرة بالفرنسية)؟ ربما ليست خيارات كونديرا هذه إلا شكلا من أشكال النضال ضد حتمية التاريخ الذي يشكل قصة مأساوية من قصص القرن العشرين، إنها قصة «غرب مختطف» ــ كما يكتب في أحد نصوصه الذي يحمل هذا العنوان (تصدر ترجمته العربية قريبا عن منشورات الخيّام في المغرب) ــ وهي قصة تتعارض مع حياته الشخصية وعمله باستمرار، عبر التقلبات والانعطافات المتعددة في كثير من الأحيان على خلفية جدلية وعنف افتراء.

هذه الحتمية التي وقف ضدها جعلته يرفض كلّ أنواع الحنين، كما نقرأ في رواية «الجهل» التي يروي فيها عن عودة شخص («عودته») إلى بلاده بعد غربة طويلة في «المنفى»، لكنه لم يستطع التأقلم فقفل راجعا من دون أي حنين إلى الماضي. حاول الكاتب أن يسترجع الماضي، أن يستعيد أحيانا ذلك الزمن الضائع. وفي محاولاته هذه، وجد أن الماضي رفضه. لذلك كانت ردة الفعل الوحيد، أن يرفض بدوره هذا الماضي. بمعنى آخر، تبدو إشكالية كونديرا انه رفض وطنه، واختار وطنا جديدا.

بعيدا عن أي استفزاز، لماذا لا يمكن للمرء أن يتمتع بهذه النعمة: نعمة الرفض والنسيان ونعمة أن لا تبقى «اللغة هي الوطن الذي نسكنه» (على قول فرناندو بيسوا). لا يوجد الماضي، وربما المستقبل، إلا في عملية التخييل الحنيني. وما الحنين سوى وهم من أوهامنا الكثيرة. هل لذلك، اختار كونديرا حياة الغربة (الحلوة) رافضا خطر العودة إلى المنزل، على العكس مما فعله عوليس في الإلياذة الذي فضل النهائي (العودة هي المصالحة مع ما في الحياة من نهائي) على اللانهائي (ذلك أن المغامرة لا تطمح أبدا لامتلاك نهاية)؟

عن صحيفة عُمان