ميلان كونديرا واجه الإغتيال المعنوي بين السلطة والصحافة

ميلان كونديرا واجه الإغتيال المعنوي بين السلطة والصحافة

عبد الرحيم الخصار

امتلك ميلان كونديرا بروايات قليلة، قياساً إلى عمره الذي ناهز تسعة عقود ونيفاً، قاعدة عريضة من القراء، أغنته عن الاعتبار الذي كان يستحقه من لدن المؤسسات الثقافية الكبرى في العالم، وفي مقدمها الأكاديمية السويدية، مانحة جائزة نوبل. لقد استطاع صاحب رواية “الخلود” بدأبه وإصراره وممانعته واشتغاله الأدبي المضني والدقيق،

أن يفتح لنفسه في حياة الإنسانية باباً من أبواب الخلود. لنقل إن كونديرا بدأ شاعراً شيوعياً كتب قصائد في الافتتان بالشيوعية، وفي مديح ستالين وقائد المقاومة الشيوعية يوليوس فوجيك، لكنه خرج من غرفة الشعر باكراً ومن بيت الأدب الأيديولوجي عموماً، واتجه إلى أرض الرواية ليبدع أعمالاً عرفت قدراً هائلاً من الانتشار والتداول. أدخل الموسيقى والفلسفة والسياسة والتاريخ إلى الرواية الحديثة كعناصر تؤدي وظيفة الإثراء وتعطي قيمة إضافية لأدبية النص. والتف القراء والمحبون حول أعماله بشكل لافت، وظلوا ينتظرون كل عام أن يقترن اسم كاتبهم الأثير باسم جائزة نوبل.

محاولة إغتيال كاتب

في عز مجد ميلان كونديرا وانتشار أعماله في العالم عبر ترجمتها إلى 51 لغة، نشرت مجلة RSPECT التشيكية سنة 2008 تقريراً يضع كونديرا من جديد في قفص الاتهام بالتخابر مع شرطة النظام الشيوعي، واعتمدت المجلة في تقريرها على وثيقة للشرطة التشيكية تعود إلى سنة 1950 تفيد بأن الطالب ميلان كونديرا قدم نفسه إلى رجال الشرطة التشيكية، وأخبرهم بمكان وجود المعارض التشيكي الذي جندته الاستخبارات الأميركية ميروسلاف دفوراسيك، الطيار الذي فر إلى ألمانيا عقب الانقلاب الشيوعي سنة 1948. وبالفعل تم إلقاء القبض عليه، وواجه عقوبة الإعدام، غير أنه قضى بدل هذه العقوبة 14 سنة من الأشغال الشاقة. لكن كونديرا واجه هذه الاتهامات بشكل حاسم، واختار أن يتحدث إلى وكالة الأنباء التشيكية، هو الذي كان قد قطع العلاقة تقريباً مع كل المؤسسات في بلده الأصلي، وصرح للوكالة بأنه لم يكن يعرف الرجل أصلاً، وأن كل الادعاءات الموجهة ضده باطلة. غير أن هذا الحدث راج بشكل كبير في الأوساط الثقافية، وسواء كان حقيقة أم افتراء فقد شوش على صورة الكاتب. ورأى كثيرون أنه أسهم في توسيع المسافة بينه وبين جائزة نوبل، هذا إذا كان المعيار الأخلاقي حاضراً بالفعل ضمن معايير حكماء هذه الجائزة. لقد كان تعليق كونديرا على هذه التفاصيل القديمة من شبابه، والتي عادت على هذا النحو في وقت متأخر من حياته، تعليقاً يغذي فكرة المؤامرة، إذ سمى ما حدث ويحدث له بعد عقود من الحضور والانتشار والنجاح الأدبي “محاولة اغتيال كاتب».

ويبدو أن أكثر من كان يقسو على كونديرا هم التشيكيون أنفسهم، فقد ظلت فئة عريضة منهم تحاسبه على الحقبة الشيوعية بالذات، على رغم من أنه خرج من تلك المرحلة باكراً، بل تحول ضدها ودفع ثمن ذلك. ولم يكن هؤلاء ينتقدونه ككاتب وروائي بل كناشط شيوعي، ما يحز في نفس كونديرا هو أن المحاكمة لم تكن ثقافية، بل سياسية. لا يوجد نقد تشيكي لرواياته التي ظلت ممنوعة في التشيك لفترة طويلة، التي لم تصل إليهم إلا لاحقاً، لذلك كان التقييم من خارج الثقافة ومن خارج الأدب.

يعترف كاتب السير الفرنسي جون دومنيك بريار، الذي ألف كتاب “ميلان كونديرا، حياة وكاتب” الصادر سنة 2019، بأن التشيكيين متفرقون بخصوص موقفهم من صاحب “المزحة”، فهو ليس “بطلاً قومياً” في بلاده كما يتوقع قراؤه في الخارج، ذلك أن نسبة كبيرة ترى فيه ذكرى لحقبة قاتمة. وقد أسهم في تعميق الهوة بين كونديرا والتشيكيين اتخاذه قراراً حاسماً بخصوص لغة الكتابة لاحقاً، إذ توقف عن الكتابة باللغة التشيكية مستعيضاً عنها باللغة الفرنسية، عقب انتقاله إلى باريس وتجريده من جنسيته الأصلية، فضلاً عن انقطاعه عن التواصل مع المؤسسات الإعلامية والثقافية والرسمية ببلاده، واتخاذه قراراً بعدم الرجوع إليها. وانتظر كونديرا سنوات طويلة ليتم رد الاعتبار إليه في بلاده، ولو بشكل رمزي، إذ تم منحه جائزة الدولة التشيكية للآداب سنة 2007، غير أن تقرير مجلة “ريسبيكت” الذي جاء في العام الموالي للجائزة أفسد على صاحب “حفلة التفاهة” طعم هذا التتويج.

يبدو أن المفارقة اللافتة في حياة كونديرا وأدبه هي أن صاحب “الضحك والنسيان” على رغم من قرار المقاطعة لكل ما هو تشيكي، ظلت التشيك حاضرة في عدد من أعماله الروائية، حتى تلك المتأخرة منها، كانت البلاد حاضرة بشخصياتها وأمكنتها وأحداثها وتفاصيلها. وفيها امتداد لتشريحه للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في التشيك، وتحديداً خلال الفترة التي عاشها هناك. وحتى النصوص التي كانت باريس مسرحاً لها كان كثير من كونديرا ومن تفاصيله الخاصة يتسرب إليها عبر شخصياته الروائية. وعلى رغم من الطابع النقدي والساخر الذي اتخذته معظم الأعمال، لا يمكن تصنيف هذا المنحى في الكتابة بالخيار الذي تقف خلفه فكرة تصفية حساب مع الماضي. فكونديرا نفسه صرح بأن الرغبة في تصفية حساب ما تضعف العمل الأدبي. لهذا يمكن اعتبار هذا النوع من الكتابة لوناً من ألوان الحنين. ثمة نوستالجيا تبطن النصوص الروائية لكونديرا، وتكشف عن ذلك الارتباط العميق والمركب ببلاده، وإن لم يكن هذا الحنين موجهاً بالضرورة إلى الزمان، فهو موجه بالأساس إلى المكان. لقد كشف آدم هراديليك عضو معهد دراسة الأنظمة الشمولية، وهو وكالة حكومية مقرها براغ، بأن كونديرا كان يزور التشيك من حين لآخر بشكل سري، ويقيم في الفنادق بأسماء مستعارة.

لقد حظي ميلان كونديرا بتقدير كبير من قراء العالم، وربما كان يرغب في أن يحظى بالتقدير ذاته في بلاده أولاً، فهو كان يكتب عن التشيك في بدايات أعمالها، كما في أواخرها، وإن لم يعش فيها كاتباً إلا 15 سنة، لأنه بدأ الكتابة وهو في الـ30 وغادر التشيك وهو في الـ45، ليعيش حياة ثقافية أطول وأشسع في باريس، حيث المرحلة المضيئة في حياته الثقافية، بحكم الانتشار والتداول والشهرة والترجمة والحضور. وكان يقول عن علاقته بفرنسا: “أنا مرتبط بها أكثر مما يعتقد».

لقد قدم صورة عميقة عن الثقافة السلافية وتفاصيل الحياة في أوروبا الوسطى، ونقل بالتالي إلى القراء في مراكز العالم وأطرافه تفاصيل دقيقة عن بلاده، أمكنتها وأحداثها وأسرار العيش فيها وسيكولوجيا أهلها. وآلمه أن تكافئ بلاده هذا الامتداد بالنكران والجحود.

انتظر كونديرا أربعة عقود ليستعيد جنسيته الأصلية، فقد قررت الحكومة التشيكية سنة 2019 رد الجنسية لصاحب “فالس الوداع”، وتكفل السفير التشيكي في فرنسا بتسليم شهادة الجنسية لكونديرا، مؤكداً أن هذا العمل الرمزي يعتبر بمثابة عودة كونديرا إلى بلده باعتباره “أكبر كاتب تشيكي باللغة التشيكية”. وقدم السفير اعتذاراً رسمياً باسم الشعب التشيكي عما تعرض له كونديرا من هجوم وإساءات على مدار سنواته الطويلة في المهجر. وقبل ثلاثة أشهر ونيف فقط من رحيله تم افتتاح مكتبة في مدينته التشيكية برنو تكريماً له، تضم جزءاً مهماً من إرثه الثقافي. الطابع الاحتفائي بصاحب “غراميات مرحة” عمقه تزامن افتتاح المكتبة مع الذكرى الـ94 لميلاده. وإضافة إلى المؤلفات تضم المكتبة رسومات الكاتب وجوائزه وتذكاراته ومقتنياته.

عرف عن كونديرا هربه الدائم من المقابلات الصحافية، فهو كان يدرك أن كثيراً من التوضيحات والتأويلات والإضاءات المتعلقة بنصوصه قد تشوش على القارئ من جهة، ومن جهة أخرى كان يخاف مما يمارسه الصحافيون من “تحريف” لكلامه، عبر البتر أو التمطيط أو تغيير أسلوب الفكرة المعبر عنها. صرح مرة بأن كثيراً من الاقتباسات الشائعة عنه ليست له، أو لم يقلها على ذلك النحو بالتحديد. والأسوأ أنها تصير مرجعاً للباحثين والأكاديميين ونقاد الأدب، لذلك صار يقترح على محاوريه، القلائل جداً، أن يضعوا معه ميثاق شرف للحوار، بحيث لا ينشر من دون أن يقوم هو بنفسه بمراجعته، والتأكد من أن أفكاره وتصريحاته لم تخضع لأي شكل من أشكال التعسف، خصوصاً أنه كاتب يقف على حبل التوتر الأيديولوجي والسياسي، بالتالي يسعى كثير من الصحافيين إلى لي تصريحاته بحثاً عن إثارات وفرقعات إعلامية، لذلك صرح في منتصف الثمانينيات بأن كل ما يتداول عنه في الصحافة مزيف ما لم يحمل توقيعه، أي أن يكون هو كاتبه من دون الحاجة إلى محاور.

في الوقت الذي كان كثير من الكتاب يبذلون الجهد كي تظل صورتهم حاضرة في الحياة الثقافية عبر الظهور في المقابلات التلفزيونية والإذاعية أو في الصحافة المكتوبة أو عبر المشاركة المباشرة في التظاهرات الثقافية، ظل كونديرا يبذل الجهد ذاته، وربما أكثر، كي يختفي عن الجميع، وكي تظل حياته الشخصية في الأساس بعيداً من أنظار ومسامع العالم. وقد وفق في ذلك إلى حد كبير، إذ كان يهمه أن يقرأ الناس روايات كونديرا وألا يضيعوا الوقت في الانشغال بقراءة حياة كونديرا.

لقد حاول الكاتب الفرنسي جون دومنيك بريار، المتخصص في كتب السيرة، الذي ألف كتاب “ميلان كونديرا، حياة وكاتب”، أن يلتقي بصاحب “المزحة” خلال الفترة التي كان يعد فيها الكتاب، ولو لمرة واحدة، ولم يتأت له النجاح في هذه المهمة. وتوسط مراراً بناشره غاليمار، وكان يأتيه الرد في كل مرة حاسماً، السيد كونديرا غير مستعد لأي مقابلة.

في كتاب “بحثاً عن ميلان كونديرا” لآريان شومان (ترجم إلى العربية بعنوان “السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا) يرد التصريح التالي لصاحب “الحياة في مكان آخر”: “في البلدان الشمولية تدمر الشرطة الحياة الشخصية للأفراد، وفي البلاد الديمقراطية يتكفل الصحافيون بذلك».

عن الاندبندنت عربية