خليل إبراهيم*
كان مكتبي في دار الاذاعة (كمدير عام للدعاية) قريبا من بيت (الباشا) واعتاد الاخير ان يهاتفني ليدعوني الى مائدة عشاء في الساعة الثامنة من كل مساء، حتى انه في بعض الاحيان كان يطلب الي سرعة المجيء وهو يردد عبر الهاتف (هاي وينك اني جعت)، فاضطر الى لملمة اوراقي كي اكون عنده في الموعد الذي اعتدنا عليه...
واثناء العشاء يحكي لي نوري السعيد ذكريات عمله السياسي واراءه في قضايا الساعة ـ سواء كان يحكم او خارجه ـ وكذلك يطلب مني ان اتصل غدا بالوزير الفلاني لاساله عن قضية ما وماذا تم فيها، او اتصل بسفارة عربية واجنبية لاحدد لهم مواعيدهم مع (الباشا)، حتى اعتاد السفراء على ذلك، وكانوا يتداولون فيما بينهم، ان مقابلة نوري السعيد عن طريق خليل ابراهيم افضل واسرع من ذهابهم لوزارة الخارجية والاخيرة تكتب لمجلس الوزراء حول تعيين موعد لرئيس الوزراء مع السفير الفلاني فصار البعض منهم اصدقائي وبالمقابل كنت اتصل بالخارجية لاعلمهم ان (الباشا) سيقابل احد السفراء يوم غد!
كانت. الاشاعات تتردد في بغداد ان ثمة صراعا يدور بين الوصي عبد الاله ورئيس وزرائه مما عجل بقيام ثورة 14 تموز، وقد برزت هذه الحالة في اواخر ايام العهد الملكي، فالوصي واعوانه، وكل اعداء نوري السعيد، كانوا يوحون للاول ان الثاني صار خطرا عليه ولابد من التخلص منه فاستجاب الوصي لهذه المشورة وشاكس السعيد حتى صار يتدخل في الصغيرة والكبيرة حتى بعد تتويج الملك فيصل الثاني مع ان الدستور كان ينص ان (الملك يسود ولا يحكم)، ولكنه كسر هذه القاعدة فكان يتصل بمن يريد ونوري يرفض ويعد ذلك تحديا لمسؤولياته، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، فقد تسلم السعيد اشعارا من اكثر من سفارة عربية واسلامية ان شيئا ما سيحدث في العراق وخلال شهر تموز بالذات، وتسربت هذه المعلومات الى عدد من الوزراء وكبار مسؤولي الدولة، وتعرف السعيد على اسماء قادة الثورة الذين (يتآمرون على النظام) وكان من بينهم عبد السلام عارف ورفعت الحاج سري فارسل علي جميل المدفعي خال سري وفاتحه بالامر فنفى ان يكون لابن شقيقته ضلع بذلك فرد عليه (جميل تره ذولة سينبشون قبر ابوي وابوك.. شوف راح شيصير)؟ واكتفى بعد هذه المحادثة بنقل سري الى مكان خارج بغداد!
اما الامير عبد الاله لم يكترث، ولم يعر القضية أي اهتمام على اساس ان (الانقلاب) ان وقع سيكون لمصلحته وسيتخلص نهائيا من غريمه نوري السعيد!
وبعد مرور اكثر وثلاثين سنة على ثورة 14 تموز، لماذا سكت نوري السعيد على رئيس اركانه رفيق عارف ولم يعاقبه، ولم يتخذ ي اجراء ضده! الا ان الذي اعرفه ان الوصي كان يثق بعارف ويعتقد انه مخلص للنظام ونكاية بالسعيد ظل يردد امام كبار ضباطه ووزرائه (وين الاطرش الباشا) وباستطاعتي ان اكعده في بيته واجيب رفيق عارف رئيسا للوزراء) وفي صبيحة 14 تموز لم يكن لرموز النظام أي اثر بما فيهم الوصي و (الاطرش) ورفيق عارف ايضا الذي دخل السجن والتوقيف رغم ارادته!
في بيتي سمعت بيانات اليوم الاول للثورة كلها وكنت بانتظار من يعتقلني، وفجر اليوم الثاني تحقق ما كنت اتوقعه، فقد اعتقلت وامضيت مدة دامت عدة شهور كنت خلالها امضي ايامي مع زملاء واصدقاء واعداء جمعتنا المحنة معا في مكان واحد وقدمت الى محكمة المهداوي كشاهد على غازي الداغستاني، وليس كمتهم في قضية هامشية لا تشكل خطورة على امن الدولة ثم اطلق سراحي بامر من عبد الكريم قاسم الذي قال لي في مكتبه بوزارة الدفاع وهو يستقبلني (اني اعتقلتك حتى احميك)!
اما اطلاق سراحي فقد جاء الجندي الحارس وصاح باعلى صوته (البس كامل) وهذا يعني بلغة تلك المرحلة، استعد للذهاب الى التحقيق، فارتديت ملابسي وكان الحديد بيدي وسألت الى اين؟ فقيل لي الى وزارة الدفاع وأمام عبد الكريم قاسم الذي رحب بي، وقال لي.. الان تذهب الى البيت، قلت: وحاجياتي مازالت في الموقف؟ اجابني: اركب سيارتي وغراضك كلها تجي للبيت، وهكذا كان!
قد حاولت مرارا ان احمل نوري السعيد على كتابة مذكراته،لكنه كان يبرر ذلك قائلا (التاريخ سيدافع عني)، واذا كان هذا رأي (الباشا) فانه ينطبق ايضا على الوصي عبد الاله وكذلك الملك فيصل الثاني، فعبد الاله كان مشغولا باستقبالات الليل والنهار واثارة الخصومات بين هذا وذاك ولم يعد له الوقت الكافي لكتابة مذكراته، اما الملك فلم يستغرق حكمه سوى سنوات قليلة، كان خلالها اسير سياسة وتوجهات خاله ومن ثم فانه لم يترك شيئا يذكر.
كنت في (سرسنك) عام 1956 عندما وصلت برقية مستعجلة من القاهرة تفيد ان (الصاغ) صلاح سالم ممثل ثورة تموز (يوليو) يود مقابلة المسؤولين العراقيين، وطلب مني السعيد العودة الى بغداد لاستقبال سالم في المطار ونقله الى سرسنك مع اعضاء الوفد بطائرة خاصة ليجري مباحثات معنا بحضور الملك فيصل الثاني ووصيه عبد الاله وتم ذلك فعلا.
وبدأ الاجتماع وطرح (الباشا) وجهة نظره انذاك وهي ان العراق لا يضمر عداوة لمصر الناصرية، وان حلف بغداد ليس موجها ضد أي قطر عربي بقدر ما يشكل ضمانة للعراق بوجه (الشيوعية)، وكان حلف بغداد يضم فضلا عن العراق كلا من ايران، تركيا وباكستان. ثم اوضح لصلاح سالم انه بعث عدة برقيات الى القاهرة عبر سفارتنا هناك اكد فيها ان الحلف لن يوجه ضد مصر بالذات بقدر ما هو يحقق مصالح مشتركة بين الدول المتحالفة لكن صلاح سالم قال اننا لم نتلق من السفارة العراقية أي ايضاح حول هذا الموضوع بالذات، فدهش السعيد والتفت الى سفيرنا في القاهرة نجيب الراوي قائلا له (نجيب... لماذا لم تسلم الجهات المصرية المعلومات التي وصلت اليك (؟ فتلعثم محاولا تبرير موقفه وهو يردد (لا باشا ما ادري) فنهره بعصبية (اسكت، اسكت) فسكت الراوي بينما احتدم النقاش بين السعيد وصلاح سالم الذي كان يؤكد (نحن نريد كتلة عربية قوية) فيجيبه السعيد (والميثاق ليس ضد هذه الكتلة).
ويذكر انه يقال ان معظم وثائق حلف بغداد سرقت مع مطلع اليوم الاول لثورة 14 تموز فماذا تقول؟ قال:
نعم سرقت بالكامل في اعقاب اندلاع ثورة 14 تموز 1958 ونقلت الى عاصمة عربية هي القاهرة ويوم اعتقلت ضمن من اعتقلوا صبيحة 14 تموز من رموز النظام الملكي علمت ان الوثائق سرقت فعلا وسلمت الى السفارة المصرية في بغداد ونقلت الى القاهرة فورا .
سكرتير حلف بغداد قبل ثورة تموز