نادر عمر عبد العزيز حسن
يقول " علي عبد الرازق " في تصديرة المجلد الكبير الذي جمع وترجم إبداع و إنجازات شقيقة " مصطفى عبد الرازق " "كان وسطا بين الجمود والتخلخل، لذلك كان منزعة الديني ايامئذ كمنزعه لا هو بالجامد المتحجر و لا هو باللين المتخلخل بل كان بين ذلك قواما و هو رجعي في أكثر من نواحية
و لكن في حدود النظر و الفطرة السليمة فلا تتسرب إلية خرافة و لا تشوبه شائبة من شوائب الشرك الخفي، ولا يلازم الجامدين غالبا من التزمت و حرج الصدد من كل رأي مخالف وهو تقدمي في بعض نواحية، ولكن مع الاستمساك بكثير من التقاليد الموروثة و مع الرجوع الى سنن السلف ".
بالإضافة لتأثر الشيخ مصطفى عبد الرازق بشيخة الإمام إستفادته من دراستة فرنسا التي سافر اليها عام 1909 م حيث التحق بالسوربون فتوفرت له الإستفاده من المحاضرات التي كان يليقها "دوركايم" ذو المكانة العلمية في العلوم الأنسانية عامة وعلم الأجتماع خاصة.
في مجال ريادته للفلسفة في عالمنا العربي المعاصر كان الشيخ مصطفى عبد الرازق أول أستاذ مصري يلقي محاضرات في موضوع الفلسفة الإسلامية وذلك في الجامعة المصرية التي أنشئت في القاهرة عام 1925م وأصبح أسمها جامعة القاهرة يقول الدكتور إبراهيم مدكور في مقالة له عن الشيخ عبد الرازق " لقد إلتف حولة في كلية الآداب بجامعة القاهرة نفر من صفوة الطلاب لقنهم درسة و عودهم على منهجة " و كانت له عناية خاص بالنصوص و شرحها و تلك سنة أزهرية قديمة و متبعه الى اليوم فاستطاع مصطفى عبد الرازق بطريقتة أن يحبب تلاميذ المدارس الثانوية في الكتب الصفراء و أن يفتح أعينهم على مراجع الثقافة الإسلامية بعد أن أصبح حالهم مما يرثى له في أكثر بلاد المسلمين فهم لا يقرءون من كتب الكلام إلا المختصرات، مما يكتب المتأخرون يتعلم أذكاهم منها ما تدل عباراتها و لا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها، و تصحيح مقدماتها وتمييز صحيحها من باطلها فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياة و عجز عن تصحيحة قطع الجدال بقول: هكذا قالوا و إن لم يكن القول متفق علية ".
لقد جمع الشيخ عبد الرازق بين مجال الفكر الفلسفي و الفكر الديني و الفكر الأدبي فدرس الكثير من الشخصيات معتمدا على النصوص التي تركتها و هذا المنهج في غاية الدقة و العمق لقد عرف بالكندي و الفارابي و الليث بن سعد و البهاء زهير و فخر الدين الرازي و أهتم بفكر المعاصرين من أمثال الشيخ محمد عبده وذلك بأن أسهم في ترجمة رسالة التوحيد الى الفرنسية.
كذلك لم يقتصر على جانب التدريس الأكاديمي في الجامعة بل قام بالكثير من أوجة النشاط الإجتماعي و السياسي فأختير وزيرا للأوقاف و ظل يقوم بهذا المنصب لمدة ست سنوات منذ عام 1937م الى عام 1944م.
إستقلال الفكر:
موقف علاقة الدين و الفلسفة و رفضه أن تكون الفلسفة خادمة للدين بل لكل منهجه و طريقتة، و جعل الفلسفة خادمة للدين ضرر بالفلسفة و الدين أما ضرره بالفلسفة أنه يحدد مسبقا لمقدماتها نتائج تقليدية و يجعل بحثها عن الحقائق موجها الى غاية هي تأييد الدين فتأخذ شكلا دينيا مقدسا لا يتناسب مع حرية البحث و النقد، كما أن حرية الفكر و استقلاله بعيد كل البعد عن موقف الجامدين الذين يصدون كل باب أمام العقل و يخشون الرأي و الاجتهاد. و كما إتسم الشيخ بالموضوعية و عدم التعصب لفكرة أو رأي أو جنس و تظهر الموضوعية مع الانصاف و التسامح و النزاهة في منهجة لدراسة تاريخ الفلسفة الاسلامية.
عدم التسرع في الحكم:
الأناة و الروية و نظرة العقل الفاحصة الناتجة عن هدوء وإتزان و رزانة المفكر فلم يعرف التعجل و التهور في الآراء للبعد عن التطرف و الشرود في الفكر لأن التطرف في الفكر يتسم بالعجالة و التهور,
تحليل الأفكار و الاهتمام بالمضمون:
قام الفكر عند الشيخ مصطفى على أساس قاعدة التحليل الديكارتي التي تحلل الفكرة الى عناصرها الأولية البسيطة ووضح ذلك في دعوته الى فهم الدين على طريق السلف قبل قيام الفرق الاسلامية ونادى الى العودة الى بساطة الدين و في دراسته عن الدين و الوحي و الاسلام بذلك أرجع هذه المفاهيم الى عناصرها الأولية المكونة لها.
البعد عن التعصب:
فلا يتعصب لفكر أو رأي معين يردده أو يدافع عنة دون إقامة دليل و لا يؤمن بتفوق جنس على آخر بل يؤمن بالموضوعية و الأنصاف.
نقد الفكرة من قبل قبولها:
إخضاع الفكرة لحكم العقل و نقده فعملية الاختبار العقلي تسبق عملية التصديق.
النظرة الكلية:
نظرة كلية شاملة تربط الجزئيات بالكليات ورد المسائل المتفرعة الى أصولها فلا يقف الفكر عند الجزئي و لا يغرق في المسائل الفرعية بل يردها الى الحقيقة الكلية التي تجمعها فكانت عنايتة "بأصول الفقة "التي رأى فيها بذور الفكر الفلسفي في الاسلام دالا على نوعية التفكير الفلسفي المنطقي كا إهتم أيضا بوضع الحدود و التعريفات و أتسم بدقة البحث.
التوفيق بين القديم و الحديث:
يمثل موقف الشيخ مصطفى حركة التطور الفكري و هي" قضية الأصالة و المعاصرة" التي تمثل الجانب الفلسفي لمدرسة الأمام محمد عبده و لقد أشرنا الى ميولة العقلية واستعداده و نزوعة العقلي و كذلك دراستة الواسعة للتراث الاسلامي القديم و إطلاعة على الثقافة الغربية و إلمامة بها.
التطبيقات الفكرية التي شكلت مشروع مصطفى عبد الرازق الإصلاحي:
كتب و مؤلفات:
شملت كتب و مؤلفات الشيخ التي تمثل فكره الإصلاحي جميع الجوانب النظرية و التطبيقية منها:
الجانب الفلسفي:
كتاب "تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية " مجموعة محاضرات قام بالقائها على طلبة كلية آداب.
كتاب " فيلسوف العرب و المعلم الثاني " دراسة لبعض الفلاسفة و المفكرين الإسلاميين.
كتاب " الدين و الوحي و الاسلام " موضوعات في تفسير مفهوم الدين و الوحي و الاسلامي.
كتاب عن"الامام الشافعي " دراسة في مذهبه و دوره في أصول الفقة من الناحية الفلسفية كتاب عن "الامام محمد عبده " محاضرات ألقاها في جامعة الشعب و ترجم رسالة التوحيد الى الفرنسية
كتاب أصدر بالفرنسية مع لويس ماسينيون عن " الإسلام و التصوف " يبين التصوف و مكانته في الاسلام.
الجانب الأدبي:
كتاب " البهاء زهير " عرض لأهم القضايا الأدبية و دور الشعر و أهميته في المجتمع.
الجانب الفني و الأجتماعي و السياسي:
صدر عنة كتاب "آثار مصطفى عبد الرازق" و أصدره شقيقه علي عبد الرازق بنبذة عن حياة الشيخ و كلمة طه حسين و هي مقالات الشيخ مصطفى على صفحتي مجلتي السفور و السياسة.
من تلاميذ الشيخ: الدكتور عثمان أمين:
قام عثمان أمين بدراسة الآثار الفكرية لمتكلم حديث وهو " محمد عبده " و أنفق جهدا كبيرا في وضع آراء محمد عبده في صورة تركيبية لمذهب فلسفي فكان له دور بارز في إبراز الفكر الاسلامي المعاصر فقام بإلقاء محاضرات في الجامعات المختلفة عن جمال الدين الأفغاني و تلميذة محمد عبده و محمد إقبال و مصطفى عبد الرازق و قدم الكثير من البحوث للتعريف بفضل الشيخ مصطفى عبد الرازق كذلك أنتشرت كتب عثمان أمين عن أقطاب المدرسة الإسلامية الحديثة بلغات مختلفة.
الدكتور علي سامي النشار: إختلف الدكتور النشار مع أستاذه فيرى الأستاذ أنه كان لفلاسفة الاسلام أصالة فكرية تجعل لهم طابعا خاصا يتميزون به عن فلاسفة اليونان، و يرى التلميذ أن هؤلاء الفلاسفة كانوا إمتدادا فكريا لا يختلف عن فلاسفة اليونان " ولقد إنتشرت آراء المدرسة الإسلامية في الشرق فزخرت بها سوريا و ظهرت آراء المدرسة في العراق على يد محمد بن بديع الشريف و هو عراقي درس في باكورة شبابة في مصر " وقد ذكر الدكتور النشار فضل أستاذه في مقدمة كتابة " نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ".
المنهج الإصلاحي في جانب دراسة الفكر الفلسفي في الإسلام:
جاء منهج الشيخ مصطفى عبد الرازق الفلسفي ليرفع الظلم الواقع على الدراسة الإسلامية الفلسفية جراء دعاوي المستشرقين المنتشرة التي تسعى لرد عناصر الفلسفة الإسلامية إلى مصدر غير عربي ولا إسلامي و تحريرا للقيود التي فرضتها ضيق أفق و نظرة طائفة الإسلاميين الذين ينحصر همهم في تقدير قيمة الفلسفة الإسلامية بميزان الدين في دراسة جامدة معادية للعقل معبرا عن وسطية صاحب هذا المنهج الذي يجمع ما بين الأصالة و المعاصرة.
آراء الغربيين في الفلسفة الإسلامية في القرن العشرين نذكر منها:
أولا: الباحث الفرنسي برهيه أستاذ تاريخ الفلسفة بجامعة السربون، وصاحب كتاب تاريخ الفلسفة الصادر في جزءه الأول سنة ١٩٢٦ م، حيث اعتبره الشيخ عبد الرازق أنه من حزب السامية والآرية، ولكن من دون أن يغرق في ذلك إغراق تاما.
وحسب رأي برهيه أن فلاسفة ممن اعتنقوا الإسلام، وكانوا يكتبون آثارهم " بالعربية لكن جمهرتهم لم تكن من أصل سامي بل من أصل آري، لذلك التمسوا موضوعات تفكيرهم في الكتب اليونانية، التي أخذ في ترجمتها إلى السريانية والعربية منذ القرن السادس المسيحيون النسطوريون، والتمسوها أيضا في الآثار المزدكية الباقية ".
ثانيا: الباحث الألماني هورتن الذي كتب فصلاً في" دائرة المعارف الإسلامية" بعنوان النزعة اليونانية في الحكمة الإسلامية، " أشار فيه إلى أن كلمة فلسفة يراد بها " النزعة اليونانية في الحكمة الإسلامية ويجب أن يعتبر أيضا إلى جانب ذلك ما بذ له المفكرون من جهود عقلية مبنية على ما كان معروفًا في عصورهم من معاني البحث العلمي عن أحوال الوجود على ما هو عليه، فهي بهذا الاعتبار ينبغي أن تعد من الفلسفة، ذلك ينطبق أولا على علم الكلام النظري الذي يرمي إلى رفع مستوى العقائد الإسلامية المحتوية على تصور للوجود بالغ من السذاجة حد الطفولة.
وما توصل إليه الشيخ مصطفى عبد الرازق بعد هذا العرض السابق في كتابة " التمهيد " ثلاث تغيرات أساسية وهي:
1ـ تلاشي القول بأن الفلسفة العربية أو الإسلامية ليست إلا صورة مشوهة من مذهب أرسطو ومفسريه أو كاد يتلاشى، وأصبح في حكم المسلم به أن للفلسفة الإسلامية كيانا خاصا يميزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مفسرية " فالواقع الذي أخذ يعترف بة الكثيرون من الغربيين أن الاوربيين أنفسهم مدينون كثيرا في فهم أرسطو لشراحة العرب كابن رشد.
2ـ تلاشي القول بأن الإسلام وكتابه المقدس كانا بطبيعتهما سجنا لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة أو كاد يتلاشى "و أصبحت أساسها القرآني التي قامت علية ".
3ـ أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملا كما بينه الباحث هورتن لما يسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام، واشتد الميل إلى اعتبار التصوف أيضا من شعب هذه الفلسفة و إن الخلاف حول التسمية قد تراجع أيضا ليصبح هامشيا في الوقت الحاضر
الفلسفة الإسلامية و مقالات الإسلاميين:
أما فريق الإسلاميين ومقالاتهم حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، فقد تحدث عنهم الشيخ عبد الرازق في ثلاثة فصول من كتابه" التمهيد "، في كل فصل تناول قضية وأشار إلى مقالات عدد من الإسلاميين، ووجد من العسير حسب قوله أن يسلك نفس النسق الذي سلكه في حديثه عن فريق الغربيين من جهة مراعاة الترتيب التاريخي في سرد الآراء وملاحظة تطورها.
في الفصل الأول - الثاني حسب تقسيم الكتاب - تحدث المؤلف عن قضية الفلسفة والعرب قبل الإسلام، والفلسفة ومصادرها في الملة الإسلامية، وأشار في هذا الصدد إلى مقالات عدد من الإسلام يين جاء في مقدمتهم القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفى سنة ٤٦٢ ه، صاحب كتاب طبقات الأمم الذي تحدث فيه عن حال العلم عند العرب وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله عز شيًئا منه، ": قبل الإسلام، وتطرق إلى الفلسفة قائلاً ولاهيأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحدا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف بن إسحق الكندي و الحسن الهمداني ". ومن بعده تحدث المؤلف عن الشهرستاني المتوفى سنة ٥٤٨ ه صاحب كتاب الملل والنحل الذي تحدث فيه عن الفلاسفة في الأمم المختلفة، وأشار إلى العرب بقوله ومنهم حكماء العرب، وهم شرذمة قليلة لأن أكثرهم حكمهم فلتات الطبع، وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات ".
وفي الفصل الثاني والثالث حسب الكتاب تحدث المؤلف عن تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، وأشار إلى أقوال ومقالات الكندي والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا، ثم تحدث عن الصلة بين الفلسفة والكلام والتصوف وفي الفصل الثالث و الرابع في الكتاب تحدث المؤلف عن الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين، القضية التي جعلها بعض الغربيين مناط الابتكار في الفلسفة الإسلامية وجعلها بعضهم الآخر سببا لانقلاب فلاسفة الإسلام مبشرين بالدين الإسلامي ودعاة له. وقد قسم المؤلف أقوال الإسلاميين حول هذه القضية إلى إتجاهين، أطلق على الاتجاه الأول رأي الفلاسفة، وطلق على الاتجاه الثاني رأي علماء الدين. عن الاتجاه الأول ورأي الفلاسفة، تطرق المؤلف إلى أقوال ومقالات ابن حزم المتوفى سنة ٥٩٥ ه صاحب كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشر يعة من الاتصال، والشهرستاني صاحب كتاب " الملل و النحل ".
وعن الاتجاه الثاني ورأي علماء الدين، الذين قال عنهم المؤلف أن لهم منزع غير منزع الفلاسفة، وهم في أكثر الأمر خصوم للفلسفة في غير هوادة ولا رفق، لأن هناك من يطعن الفلسفة لكن مع رفق ويحسب على هذا الاتجاه في نظر المؤلف، الراغب الأصفهاني المتوفى سنة ٥٠٢ ه صاحب كتاب الذريعة إلى أحكام الشريعة، وأبو حامد الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥ ه صاحب كتابي تهافت الفلاسفة و المنقذ من الضلال، ويختم المؤلف حديثه عن هذا القسم الأول من الكتاب بقوله كلام الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، مع قصوره عن تكوين منهج تاريخي، هو في غالب الأمر يعنى ببيان نسبة هذه الفلسفة إلى العلوم الشرعية، وحكم الشرع فيها، ورد ما يعتبر معارضا للدين منها. والعوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من شأنها فهي أحداث طارئة عليه، صادفته شيئا قائم بنفسه فاتصلت به لم تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع، لكنها على كل حال لم تمح جوهره محوا ".
ومن هنا يتضح عناية الشيخ عبد الرازق بالتتابع و المنهج البحثي التاريخي الذي يقوم على مجموعة مراحل مهمة يصل بها الى تحقيق أهدافه العلمية و القوانين التي تستنبط من التحليل التاريخي و الهدف الأسمى هو تأصيل الفكر الإسلامي الفلسفي بتأصيل موضوعاته و المعنيين بتخريجه.
· عن موقع الحوار المتمدن