في الذكرى السنويّة لوفاته؛ شمعة على روح عبدالوهّاب البيّاتي

في الذكرى السنويّة لوفاته؛ شمعة على روح عبدالوهّاب البيّاتي

عبدالرزّاق الربيعي

تزامن وصولي العاصمة الأردنية عمّان، للمشاركة بمهرجان جرش للثقافة والفنون، مع ذكرى وفاة الشاعر الرائد عبدالوهّاب البيّاتي التي توافق الثالث من آب 1999، لذا، فإن أوّل شيء فعلته هو الاحتفاء بالمناسبة بطريقة خاصّة، في جلسة ثقافية بمقهى (زجل) بوسط البلد،

فقد كان البيّاتي الذي يعدّ من روّاد الحداثة في القصيدة العربية حاضرا، لاسيّما كان كثير التردّد على المقاهي في المدن التي أقام فيها: القاهرة، مدريد، دمشق، وعمّان، وكان لي نصيب اللقاء به في المقهى البغدادي بشارع (أبو نواس) ببغداد، وكان يلتقي به في بعض الأحيان مع الكاتب عزيز السيد جاسم.

وللبياتي مع مقاهي عمّان خلال إقامته فيها في التسعينيات قبل انتقاله للعيش في دمشق حكايات، أبرزها في (الفينيق) الكائن بشارع الجاردنز بالعاصمة الأردنيّة عمّان، إذ كنّا نجتمع به مع الشاعر الكبير خلال إقامتي عام 1994، وكان لزاما عليّ أن أشعل شمعة على روحه مع الأصدقاء والصديقات: جعفر العقيلي، سميحة خريس، هدى أبلان، جمانة الطراونة، هيا صالح، نداء يونس، د.مريم ناريمان نومار، مستعيدا ذكرياتي معه، لقاءاتي به في عمّان، فعند وصولي العاصمة الأردنية في الأول من فبراير ١٩٩٤ سألت إدارة (الفينيق)، بعد أن عرفت أنّه يجلس يوميا فيه، قيل لي: أنتظره في ذلك الركن، سيأتي بعد قليل، وبالفعل بعد حوالي نصف ساعة دخل البياتي، أردت أن أتّجه حيث يجلس، فقال لي الصديق الشاعر علي الشلاه: ابق بمكانك، إنّك تجلس على طاولة البيّاتي، وبالفعل اجتاز الكثير من الطاولات حتى وصل الطاولة التي أجلس فيها، وعلمت فيما بعد أن تلك الطاولة خصّصتها مديرة الكاليري، ومالكته الراحلة سعاد دبّاح له ليلتقي أصدقاءه وضيوف عمّان من الأدباء العرب، على تلك الطاولة التقينا الكثير من الشخصيّات الثقافية العربيّة، وكم ترنّمنا بقصائده:

مدن بلا فجر تنام

ناديت باسمك في شوارعها فجاوبني الظلام

ونحن منفى إلى منفى

ومن باب لباب

نذوي كما تذوي الزنابق في التراب

فقراء يا قمري نموت

وقطارنا أبدا يفوت

ودارت نقاشات عديدة، وألقيتْ قصائد على مسامع الشاعر الكبير، وأُجريتْ حوارات ثقافيّة، صحفيّة وتلفزيونيّة، فقد كان نجم المكان، وعلى تلك الطاولة ولدت فكرة كتاب" عبدالوهاب البياتي في مدن العشق" الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام1995 وشاركتُ به إلى جانب شعراء كانوا مقربين منه كسعدي يوسف وعدنان الصائغ، وعلي الشلاه، وفي الليل كان يغادر مع ضيوفه إلى مكان آخر يسهرون به، وصارت هذه الطاولة علامة ثقافيّة مميّزة، وبقيت محجوزة له، حتّى بعد مغادرته عمّان إلى دمشق، ومن ثمّ وفاته فيها ودفنه إلى جوار المتصوّف ابن عربي، حسب وصيّته، وأذكر أنني زرت المكان نفسه بعد رحيله، فوجدت كرسيّه منكفئا على وجهه، وأمامه فنجان قهوة كان فارغا، وكان المشهد مؤثّرا، وفي كتاب (شهادات) يقاسمني الشعور د. عبدالرضا علي فيقول " لم أتمالك نفسي في (الفينيق) حين وجدت أن الأوفياء قد جعلوا من ركنه مزارا، أو متحفا مصغّرا، فقد أمالوا كرسيّه الذي كان يجلس عليه على منضدته، ووضعوا أمامه فنجان قهوته، وبجواره ديوانه، والمزهرية التي كانت توضع على طاولته، وقطعوا الركن عن باقي الأتليه، ووضعوا لافتة تقول (ركن البياتي- وداعا أبا عليّ) "،شعراء آخرون كانوا يرتادون (الفينيق) ويجلسون على الطاولة التي اعتادوا الجلوس عليها، وأذكر أنني جلست ذات يوم على كرسي كان فارغا في غاليري (الفينيق)، وبعد دقائق دخل الغاليري الشاعر الراحل محمد القيسي، فألقى عليّ التحية، وراح يوزّع نظرات حائرة، باحثا عن مكان مناسب، وخلال ذلك نبهني صديقي علي الشلاه بأنني جلست في الكرسي الذي اعتاد القيسي الجلوس عليه، فقمت على الفور، مخليا المكان له، وجاء هذا التقليد إحياء لتقاليد كانت منتشرة في المقاهي الأدبية، ومنها مقهى يقع وسط مدريد وضعت عليه لافتة تقول" رجاء عدم الجلوس.. همنغواي قادم بعد قليل" تذكيرا للسيّاح ورواد المقهى بالطاولة التي كان يجلس عليها همنغواي في زياراته لإسبانيا، فتحوّلت إلى علامة سياحية في مدريد. وعن زيارته لهذا المقهى حدّثني القاص الراحل عبدالستار ناصر الذي التقيت به آخر مرّة في عمّان 2007 م عن جلوسه في مقهى همنغواي الذي احتفظ بكرسيّه، وحتى الكأس الذي كان يشرب منه، وحين كان همنغواي يرور باريس اعتاد الجلوس في مقهى (غلوسري دي ليلا) وفيه كتب عددا من قصصه، وفي مقهى" فلور" كان يجلس جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار، وأبولينير الذي حوّل طاولته إلى مكتب، ومقهى (لوبروكوب) التي كان يرتادها روسو وفولتير في القرن الثامن عشر، ومن ثم روبسبير ودانتون، ومنها خرجت الأفكار التنويرية التي أشعلت فتيل الثورة الفرنسية، وكلّنا عندما نزور القاهرة نقصد مقهى (ريش) الذي كان يرتاده نجيب محفوظ وكبار المبدعين المصريين والعرب، ونلتقط الصور التذكارية عند واجهة المقهى، وكذلك مقهى (الفيشاوي(.

وحين قصدت الفينيق، أمس، ليس لألتقي البيّاتي هذه المرّة، بل لكي أشعل شمعة على روحه وأردّد معه:

وسألت عنك الريح وهي تئن في قلب السكون

ورأيت وجهك في المرايا والعيون

وفي زجاج نوافذ الفجر البعيد

وفي بطاقات البريد

فلمن تغني؟ والمقاهي أوصدت أبوابها

والليل مات

والمركبات

عادت بلا خيل يغطيها الصقيع

وسائقوها ميتون

أهكذا تمضي السنون؟