د. خالد حمود السعدون
يبدو ان هذا المشروع كان أول ثمرات ولاية حسين ناظم باشا في بغداد. فقد وصل المذكور إلى مقر ولايته في الخامس من ايار سنة 1910 وفي الأسبوع الأخير من الشهر نفسه أعلنت بلدية بغداد عن مناقصة لإنشاء خط للترام في المدينة. ودعت الراغبين في نيل الامتياز إلى تقديم عروضهم خلال أربعة أشهر. ويحسن هنا إيراد فحوى شروط المناقصة، لأنها تبين تفاصيل المشروع من ناحية، ولانها تعرفنا بنظام التناقصات والامتيازات المطبق حينئذ من ناحية أخرى، واهم ما جاء في تلك الشروط:
سيكون نصف قطر خط الترام خمسة عشر كيلومترا من مركز مدينة بغداد. وسيمتد خطان بموازاة النهر على ضفتيه، وتتفرع منهما خطوط اخرى تمتد إلى زوايا مختلفة من اسوار المدينة. وسيمتد خط دائري خارجي يسير بمحاذاة الاسوار ايضا. وستمتد شبكة خطوط الترام من الكاظمين في الشمال إلى قرية القرارة في الطرف الجنوبي للمدينة، بمسافة حوالي خمسة عشر كيلومترا.و ستكون مدة الامتياز خمسين سنة. وان يكون لصاحب الامتياز حق احتكار إنارة مدينة بغداد بالكهرباء.
و يلزم صاحب الامتياز بانجاز وتشغيل خط الترام بمعدل 7.5 كيلومتر كل سنة.
و بانقضاء نصف مدة الامتياز (اي خمس وعشرين سنة) سيكون للحكومة الحق في شراء كل الشبكة في أي وقت تشاء. وسترتب شروط الشراء من قبل لجنة مكونة من ستة اعضاء، ثلاثة يمثلون الحكومة وثلاثة يمثلون صاحب الامتياز. اما اذا انقضت مدة الامتياز بكاملها، فسيصبح الترام ملكا كاملا للحكومة مع كل ملحقاته.
وكذلك سيسمح لصاحب الامتياز بانشاء شركة عثمانية تدعى Societe ottoman des tramway electrics de Baghdad ولكنه لن يكون حرا في بيعها لأية جهة أخرى.
ستكون تعرفة النقل في الترام داخل حدود المدينة عشرين بارة (0.022 دولار امريكي) للدرجة الأولى، وعشر بارات للدرجة الثانية. اما خارج حدود المدينة فتكون التعرفة ستين بارة للدرجة الأولى، واربعين بارة للدرجة الثانية. وسينقل العسكريون على الخط بنصف التعرفة المقررة. (نرد بعد ذلك شروط ومواصفات فنية عن عرض الخط ودرجة الانحناء في مساره، وما أشبه. مما لا فائدة من ذكرها هنا).
و يجب الا تتجاوز المسافة الفاصلة بين اماكن الوقوف اربعمائة متر داخل المدينة وستمائة متر خارجها.
ويشترط الاتفاقعلى ان يجب أن تكون العربات صنفين: احدهما للاستخدام صيفا، والآخر للاستخدام شتاء. كما يجب أن يكون في العربات اماكن مخصصة لركوب النساء العثمانيات.ويجب ان تتكون العربات من مقصورات في الدرجتين الأولى والثانية.
وبعد ان نقل القنصل الامريكي الشروط الواردة أعلاه، أضاف أن السلطات في بغداد غير مطلعة كفاية على موضوع الترام، وليس في بغداد مهندسون مختصون يقدمون لها النصح. ولذلك ربما كان من الجدير بالجهات المهتمة للدخول في هذه المناقصة أن تتقدم لوالي بغداد عارضة إرسال خبير من قبلها يعاين الموقع على الطبيعة، ويقدم نصائحه للوالي الذي خولته استانبول الصلاحية الكاملة للعمل.
ولم يرد في تقارير القنصلية الامريكية في بغداد بعد ذلك ما يشير إلى موضوع تلك المناقصة ومن تقدم لها بعرضه. ولكن القنصل الامريكي كتب في تموز 1910 مفيدا بان بلدية بغداد منحت محمود الشابندر امتيازا لإقامة محطة انارة كهربائية وتسيير ترام كهربائي في بغداد. وأعرب القنصل عن اعتقاده في أن لاشيء عملي سيتمخض عن هذا الامتياز لأمد طويل على الاقل. وعلل ذلك بالعقبات الكبيرة التي تعترض اقامة مشروع كهذا، مثل الكلفة العالية للفحم اللازم للمحطة، واجور الشحن العالية من الخارج الى بغداد، وندرة العمال المحليين المهرة. وعلاوة على ذلك لايملك موظفو البلدية انفسهم فكرة صحيحة عما سيكلفه نظام انارة كهربائي حديث لمدينة بحجم بغداد، واقل من ذلك كثيرا ما يعرفونه عن الكلفة الضخمة والعمالة الكثيرة والوقت الطويل والدراسة المعقدة لاقامة نظام ترام كهربائي لمدينة نائية عن كل الاعمال الهندسية المتطورة في العالم.
وفي تقرير اخر بتاريخ اليوم نفسه عاد القنصل للحديث عن الامتياز الذي منح للشابندر. فذكر ان الوالي وضع رسمياً حجر الاساس لمحطة الانارة وخط الترام منذ اسبوعين مضيا. واضاف: "ليس من الواضح، حتى للمراقب غير الفني، كيف سيستطيع السيد الشابندر تحقيق طموحاته لانارة بغداد.. ان الشوارع في اغلب الاماكن لا تتسع الا بما يكفي لمرور سيارة واحدة، وهي اكثر ضيقا لمرور المشاة والعربات الاخرى معا في اماكن اخرى. والوقود غالٍ هنا لدرجة ان استخدامه في الشتار متعذر الا على الطبقات العليا. والمسافات في بغداد ليست طويلة لان المدينة متلاصقة جداً. واذا لم تحدد لمعرفة النقل بمبلغ زهيد للغاية فان الطبقات الافقر التي تضم غالبية السكان لن تقدر على ركوب الترام. كما انه ليست هنالك تقريبا ضواحي ماهولة يمكن ان تمد لها خطوط من الترام لزيادة تشغيله. وليس هناك اطلاقا عمال ماهرون يمكن استخدامهم في بناء العربات او اصلاحها... عامة الناس هنا يشيرون الى كافة المصابيح النفطية على انها "كهرباء"، وليس لديهم نصور عما نعنيه المصابيح الكهربائية الحقيقية. ولايتوفر في هذه المنطقة اخشاب او مواد بناء اخرى. ولذلك فكل شيء يجب ان يستورد، علما بان اجور الشحن الى بغداد، خاصة من امريكا، باهضة تقريباً".
وطوال سنتين تقريبا مرتا بعد ذلك لم يرد شيء عن هذا المشروع فيما بين يدي من وثائق. ولكن القنصل الامريكي عاد في اذار 1913 يكتب نقلا عن جريدة "الرياض" البغدادية قولها. "ان الحكومة العثمانية المركزية اقرت الامتياز الذي منحته بلدية بغداد لمحمود الشابندر لبناء خط ترام من المعظم الى القرارة، وان الشابندر غادر الى اوربا لشراء المواد اللازمة وللتعاقد مع المهندسين الذين سيشرفون على العمل". وعلق القنصل على ذلك الخبير بفقرة اشر مقابلها بانها سرية. قائلاً: "من المفهوم هنا الا شيء من ذلك سيتحقق – فليس من الممكن بناء ترامواي عبر مدينة بغداد الى ان يوسع الشارع بصورة كافية، وهي مهمة مكلفة – ولقد جرت محاولة شبيهة من قبل ناظم باشا، الوالي الاخير، ولكنها لم تنجزه".
ويبدو لنا ان هذا الامتياز غير ذلك الذي سبق ان منحته بلدية بغداد للشابندر سنة 1910 – يدل على ذلك ان خط الترام بموجب الامتياز السابق كان يمتد من الكاظمين الى القرارة، حسبما مر بنا من شروط. ثم ان الامتياز السابق نص على انشاء خط الترام ومحطة انارة كهربائية في الوقت نفسه. بينما اشار القنصل في تقريره اعلاه الى ان بلدية بغداد قد فتحت باب التقدم بالعروض لانشاء محطة انارة كهربائية لمدينة بغداد، بعد حديثه عن منح امتياز الترام الى الشابندر مباشرة. ولعل الفترة الواقعة بين تموز 1910 واذار 1912 قد شهدت تطورات تخص ذلك الامتياز ولم تصلنا تفاصيلها.
وترتب على سفر الشابندر الى اوروبا دخول مشروع الترام مرحلة اكثر جدية مما سبق، فتردد في بغداد ان المذكور قد باع امتيازه كليا او جزئيا لشركة انجليزية ستباشر الانشاء الفعل في القريب العاجل. وبالفعل وصل الى بغداد في ايار 1913 مهندسان انجليزيان للقيام بعملية المسوحات اللازمة. اذ كانا سيقومان بمسح خطين عبر مدينة بغداد من المعظم الى المركز، وخطا ثالثا يسير بمحاذاة الحد الشرقي للمدينة من المعظم للقرارة، وخطا رابعا يحاذي الضفة اليمنى لنهر دجلة عبر غرب بغداد. وستقدم خرائط تلك المسوحات إلى الحكومة المركزية في استانبول لاختيار واحد او اكثر من بين الخطوط المقترحة. وعلق القنصل الامريكي بعد إيراد تلك المعلومات بقوله "ان الخط بين المعظم ومركز بغداد يبدو انه سيكون استثمارا جيدا رغم كلفته العالية لانه يتطلب هدم دور كثيرة لتوسيع الشارع، وذلك بسبب الاعداد الكبيرة التي تتجه من بغداد لزيارة قبر الامام اي حنيفة – كما ان بناء خط من الباب الجنوبي حتى القرارة يحتمل ان يكون استثمارا جيدا ايضا، في حين ان الجانب الغربي لمدينة بغداد لا يبدو بحاجة ملحة لخط ترام كهربائي، حيث ان هناك ترامواي خيول يربط بينه وبين الكاظمين منذ ايام مدحت باشا). وقد اكمل المهندسان الانجليزيان عملهما في بغداد وغادراها عائدين الى اوروبا في ايلول 1913، دون ان يعلنا شيئا عن الخطوة التالية، التي علق الناس معرفتها عودة محمود الشابندر صاحب الامتياز الذي كان مايزال في اوروبا. ثم كفت تقارير القنصلية الامريكية في بغداد خلال سنة كاملة تالية عن ذكر اي شيء يتعلق بهذا المشروع. ثم في ايلول 1914 عاد القنصل للكتابة عن المشروع بقوله: "ان اثنين من المساحين الانجليز من شركة دوغلاس يونغ وشركاه Douglas Young and co. جاءا بغداد مؤخرا للقيام بتخطيط طريق الترام المزمع. وقد انتدب هذا المساحان من قبل نقابة Syndicate في لندن تملك حقوق امتياز ذلك المشروع.
واعرب القنصل عن اعتقاده بانه نظرا لظروف الحرب العالمية القائمة، فان من المحتمل الا يتمكن اللندنيون من تطوير الامتياز نتيجة لعدم قدرتهم على توفير التموين اللازم. ثم اشار الى ان ذلك يمثل فرصة مواتية للمستثمرين الاميركان المهتمين بالحصول على امتيازات في الدولة العثمانية. ويتضح مما مر ان الامتياز تحول بشكل ما من صاحبه الاصلي الشابندر الى تلك النقابة الانجليزية. ولعل ما تردد في بغداد في غضون سنة 1913 كما مر من بيع المذكور لامتيازه خلال وجوده في اوروبا كان هو سبب ذلك التحول.. وغني عن البيان هنا ان دخول الدولة العثمانية للحرب إلى جانب ألمانيا وحليفاتها في تشرين الثاني 1914 قد طوى صفحة هذا المشروع إلى الأبد.
عن: محاولات تحديث وسائل النقل في العراق بين سنتي 1904 – 1914