ذكرياتي مع حقي الشبلي

ذكرياتي مع حقي الشبلي

باسم عبد الحميد حمودي

كنت عام 53-54 طالبا في الصف الثالث المتوسط في (الكرخية)- والكرخية اسم ثانوية الكرخ الشعبي – عندما جاء فرّاش المدير (المرحوم ضاحي) بورقة معممة الى كافة الطلبة على هيئة اعلان أداره على الصفوف يدعو من يرغب (وله القدرة والكفاءة) من الطلبة لحضور اختبارات اللجنة الفنية التي ستجري في غرفة المدرسين بعد أنتهاء الدوام الرسمي لاختيار المشاركين في فرقة التمثيل الخاصة بالمدرسة.

كان ارسال العم ضاحي الى الصفوف حدثا تاريخيا بالنسبة للطلبة فهذه مهمة الفراشين العاديين وضاحي ليس منهم فهو عند مديرنا المربي الكبير طه مكي بمثابة المرافق المؤتمن وهو عند الطلبةمرعب اكثرمن معاون المدير – الشديدالتعامل - الاستاذ عبد المجيد سعيد, وقد علمت فيما بعد ان مديرنا ارسل ضاحي للتجوال بذلك الاعلان تكريما لحضور اساتذة الفن الى غرفته وفي مقدمتهم حقي الشبلي وناجي الراوي – شيخ فرقة الزبانية المعروفة اذاعيا – أضافة الى اسعد عبد الرزاق ومحمد امين.

وكان (سر) اختيار غرفة المدرسين مكانا انها اكبر الغرف في المدرسة,وفيها مقاعد كافية, ثم أنها مثار للابّهة المطلوبة للمدير وللاحترام الذي ينبغي ان يقدم للاستاذ الشبلي وزملائه. (هذا كلام خارج المتن فقد كان طه مكي ابرز مدراء الثانويات في بغداد الملك مع مدير الاعدادية لمركزيةعلاء الدين الريّس وقد اختير مكي مديرا لمعارف لواء الكوت وعين بدله الشخصية الكردية الاستاذ رفيق حلمي لعدة اشهر ثم اختير الاستاذ عبد المجيد حسن ولي لفترة قصيرة ايضا ثم نقل ولي وقبله حلمي الى التفتيش ثم عين الاستاذ شاكر الجودي – وهو مؤلف وشاعر- مديرا للكرخ بعدهذا حتى عام 1956 حيث عين الاستاذعبد المجيد سعيد مديرا).

دخلت غرفة المدرسين على استحياءوكل همي لاأن اشترك في الفرقة المسرحية بل أن أرى الشبلي بطل فيلم ا لقاهرة –بغداد (مع مديحة يسري وعفيفة اسكندر) عن قرب واشاهد الحاج ناجي الراوي بطل فرقة الزبانية الاذاعية الشهيرة ايامها(لم يكن هناك تلفزيون عام 1953., وكانت الزبانية تضم الفنانين حميد المحل وناظم الغزالي وحامدالاطرقجي وغيرهم اضافة للراوي), وكنت قد سمعت من الطلبة ان المخرج الاذاعي عبد الله العزاوي سيكون مع الآتين. لكنه لم يحضر ولم يكن يعمل الافي الاذاعة اللاسلكية مخرجا للتمثيليات الاذاعية القليلة ذات القبول العالي أستماعا.

اول دخولي دعاني مدرس العربية يحيى الثعالبي المشرف على الفرقة المزمع تشكيلها الى الجلوس وسط مجموعة كبيرة من طلبة الصفوف المتقدمة, جلست بصمت وسط ابتسامات الطلبة الاكبر سنا والاكثر شهرة أذكنت ايامها في الصف الثاني والذين يجلسون اكثرهم معروف يتقدمهم حمزة مسلم لاعب كرة السلة الاشهر (الابرز منه سلمان فرس النبي الذي لم يحضر واللاعب عباس سعيد) ومحمد عباس الجبوري شاعر المدرسة وأحمد عبد الكريم مطرب حفلات المدرسة وشقيق المطرب محمد كريم أحد أبرزمطربي الاغنية البغدادية الحديثة... أيامها لم يكن هؤلاء يهتمون بمنافسة نموذج مثلي فهم الاشهر في الساحة أيامها.

المهم ان الشبلي كان يتحدث مع مساعديه مرة ثم يختار طالبالاداء نص امام الجميع مرة اخرى, ولم يطلب من حمزة ومحمد عباس تقديم مشهد أو نص لانه كان قدجربهما في اعمال سابقة.

عندما نودي عليّ كنت جالسا في الخلف فتحركت بصعوبة قاصدا وسط الغرفة, واستفسر الشبلي مني عن عمري وصفي وطلب مني تأدية أي مقطع أو قصيدة, ولست ادري أي شيطان دفعني الى صراخ متصل قلت فيه ما قلت دون تحضير, لم يكن نصا شعريا ولا مسرحيا بل كان مزيجا غريبا أنصت له الشبلي وجماعته مستمتعين – على مابدا – وكان النص –على ما أتذكر – يناشد الشبلي ان أكون برفقته طائرا في الهواء من اجل الفن الذي ادعيت اني اعشقه وحين انتهيت صفق لي زملائي بحماس وصافحني الشبلي الكبير ليستعرض اداء زميل آخر.

جلست ساكنا أنتظر نتيجة التقويم, وكان النص التمثيلي المقرر للكرخية ذلك العام هو مسرحية (وامعتصماه)للشاعر علي احمد باكثير وهو شاعر اندونيسي الاصل جاء الى الازهر (في القاهرة) ضمن ترشيحات مسلمي جزيرة جاوة ليدرس في مدارسه الدينية, لكن القاهرة استهوته وتمكن بمواهبه اللغوية والشعرية أن يجد له مكانا في التدريس والصحافة والادب فلم يعد الى جاوة ومكث في القاهرة وتزوج فيها وأنجب وكتب الكثير من الاعمال الشعرية المسرحية حتى وفاته في ستينات القرن الماضي., ولابد من القول بريادة باكثير للون من الشعرالذي اطلق عليه فيما بعد بالشعر المهموس او الشعر المرسل, وليس هذا موضوعنا ولكنه الاستطراد. بعد ان انتهى الجميع اختار الشبلي من اختار للعمل في المسرحية وحين نودي علي ابتسم قائلا)) انت ابن عبد الحميد؟ كيف حاله؟)) ولما اجبت شاكرا فرحا بهذه العلاقة قال لي: صوتك مرتفع الطبقة رفيع النبرة وأنت غير متدرب سابقا, لن اعطيك دوراوعليك أن تكون معناساعات البروفات لتكتسب خبرة كافية.

ابتسمت محسورا وانتهى اللقاء بعد أن وزع الشبلي الادوار على عدد من الطلبة المعروفين لديه بمساعدة حامد الاطرقجي وأسعد عبد الرزاق.

لم اعد أسأل عن مواعيد التدريب فقد كنت- من على بعد – ارقب زهو ممثلي المدرسةبادوارهم وحديث بعضهم المتبجح امام زملائهم.

كان دوام مدارس تلك الايام الخالية على شكل وجبتين, اربعة دروس صباحا تنتهي عند الثانية عشرة ظهرا تعقبها فترة استراحة تمتد حتى الثانية بعد الظهر حيث نتلقى دروس درسين, ويكون يوما الاثنين والخميس على وجبة واحدة هي الوجبة الصباحية... سقت هذا لاقول انه خلال الدرس السادس ليوم ثلاثاء (ما) جاءالسيد (ضاحي) كبير الفراشين الى صفنا وناول ورقة لاستاذ العربية المرحوم شاكر الحبّوبي فناداني استاذي باسما وهو يقول(اخذ كتبك واسرع الاستاذ الشبلي يريدك).

اسرعت مرتبكا الى غرفة المدرسين التي اعتاد الشبلي حجزها ايام التدريب (البروفات) حيث ينتشر مدرسو الكرخيةفي غرف المدير والمعاونين والمختبرات, وقد يصعد البعض منهم الى غرفةالمرسم الذي كان تحت اشراف الفنان الكبير (فيما بعد)خالد الرحال رحمه الله, ولا احدمنانحن الطلبة كان يعلم شيئا عن مكانة هذا الفنان ا لذي كنا نشاكسه حتى رحل الى فرنسا في بعثة دراسية, ولم نكن نعلم أن الرحال هو الابن الوحيدللكاتب والمفكّر العراقي حسين الرحال, الذي كشفت الدراسات عن توجيهه وتاثيره على ابن عمته محمود احمد السيد المدرس, ومن اراد المزيدفي معرفة خارطةالعلاقات الشخصية البغدادية الثقافية فليعد الى مذكرات د. سانحة أمين زكي وكتاب د. الطاهر عن (السيد).

المهم اني وصلت الى غرفة البروفات وسلمت مستحيا ولم يجبني احد سوى الشبلي الذي اعطاني ورقة كتبت عليها عبارة ((انا رسول الشام اليكم يامولاي وقد جئتكم بهذه الهدايا)),وكانت تلك العبارة خاضعة لتدريبات متواصلة.

كان ذلك فاتحة لتلمذة على يد الفنان الكبير حقي الشبلي امتدت لسنوات قمت خلالها بالمشاركة مع طلبة الكرخ في تمثيل (شمعدانات الاسقف) لفكتور هوغولاعبا دور المفتش ولعبت دور (لافليش)في (البخيل)لمولير ودور (الحارث) في (شعلة من الصحراء) للبناني فريد مدوّر وكانت كل هذه الاعمال تتم باشراف كامل للاستاذ الشبلي وبمساعدة الفنانين: ناجي الراوي وأسعد عبد الرزاق وكامل العبللي.

خلال هذه السنوات كانت فرقة الكرخ المسرحية تزور فرقة دارالمعلمين (حيث كامل القيسي) وفرقة الاعدادية المركزية (حيث محمد منير وسامي تيلا) ويحضر بعضنا الى معهد الفنون الجميلة ليشاهد الشبلي وهو يقيم بروفاته المتعبة الحافلة بالنشاط وكان من تلامذته البارزين الذين شاركوا في تقديم مسرحية (شهرزاد) لتوفيق الحكيم علي الداوود وروميو يوسف وسواهما, ومسرحية(يوليوس قيصر) التي أخرجها وفق رؤية برشتية تغريبية مستخدما الصالة جزءا من مسرح العرض حيث دخل (اشراف روما) من الصالة وصعدوا الى المسرح (ولاشراف روما حكاية خاصة مع الشبلي ذهبت مثلا).