إسكندر حبش
مع رحيله (يوم الجمعة الفائت عن عمر يناهز 97 عاما، مواليد 1925) تُطوى صفحة كبيرة ومهمة من صفحات علم الاجتماع، لا الفرنسية فقط، بل في العالم بأسره، حتى أن بعض المفكرين، اعتبروا أن علم الاجتماع «يتيم» بعد رحيل آلان تورين، «كذلك طلابه الذين تتلمذوا على يديّه وعلى محاضراته والذين كانوا يأتون من شتّى أرجاء الأرض».
يشكل هذا الكلام الذي ينقله كلّ من فرانسوا دوبيه وميشيل فيوفوركا -(وهما عالما اجتماع أيضا أسسا مع الراحل «مركز التحليل والتدخل الاجتماعيين») -أكثر من تحيّة، بل هو اعتراف بطريقة تورين في التعليم كما في العمل التحليلي الاجتماعي، إذ يُقرّ الجميع أن دروسه لم تأتِ بطريقة «دوغمائية» أو «مُستعادة ببساطة متكررة» بل أنه «دفع طلابه إلى التفكير بحرية لكي يبنوا عملهم الخاص بأنفسهم».
هذه العلاقة المتميزة مع الطلاب بدأت منذ العام 1968 (زمن احتجاجات الحركة الطلابية في فرنسا) حين كان أستاذا في جامعة «نانتير (التي تعتبر مهد الحركة الاحتجاجية الطلابية في نهاية ستينيات القرن الماضي). كان تورين، في واقع الأمر، إلى جانب هذه الحركة، لذا اقترح عليهم أن يقوموا بتحليل فوري لها ودراستها: بالنسبة إليه لم تكن احتجاجات الحركة الطلابية نتيجة لأزمة جامعية فقط بل هي احتجاجات سوف تقود إلى المجتمع ما بعد الصناعي. لا يشير كلام تورين هذا إلى رؤيته كــ «مؤرخ» فقط -(حصل على إجازة في التاريخ قبل أن يتحول إلى دراسة علم الاجتماع) -لما كان يجري من أحداث، بل إنه يقع في قلب علم الاجتماع، فهو قبل كثيرين، وربما بشكل أفضل منهم، رأى في أحداث أيار (مايو) 1968 «الشعلة الممهدة» لهذه «النضالات» التي كانت تتصور المجتمع الجديد والتي يقارنها بنضال الحركة العمالية تجاه المجتمع الصناعي. ربما اليوم، نستطيع أن نرى بوضوح ونفهم فعلا، أن تحليلاته كانت صائبة، لهذه التحولات الاجتماعية، والتي عاد لدراستها مع كتابه الموسوم «نقد الحداثة» (الصادر في نهاية القرن العشرين).
ما أتاح لآلان تورين هذا المسار السوسيولوجي، المخالف لزملائه، والأكثر قدرة على قراءة الأحداث الاجتماعية بفكر مختلف، هو تحرره منذ البداية من قيود المدرسة الوضعية (وريثة أوغست كونت وإميل دوركهايم). نعرف أن المدرسة الوضعية، كانت تدرس الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء خارجية (قاعدة دوركهايم الأولى) أي أنها تمتلك وجودا خارجا (مستقلا) عن الأفراد، بل إن دوركهايم ذهب إلى أبعد من ذلك حين اعتبر أن لها قوة إلزامية، بل قهرية، عليهم (ما يعني في الواقع، أن الدولة والمجتمع هما بمثابة «إلهين» جديدين، فيما لو قرأنا دوركهايم بعمق). في تفلت وتحرر تورين من براثن هذه المدرسة – التي وجدت مريدين عديدين من علماء الاجتماع – كان يحاول أن يقرأ المجتمع بطريقة مختلفة: فحين انتقد المدرسة السابقة، كان في الواقع ينتقد النسق الذي سارت عليه دائما عبر اهتمامها بدراسة المؤسسات المختلفة (المجتمع والدولة والأسرة والمدرسة والنظام التعليمي، الخ)، لأن اهتماماتها هذه أو لنقل طريقتها في الدراسة والتحليل، كرست سيطرة النظام الاجتماعي لتغفل جانبا آخر مهما ألا وهو الحركات الاجتماعية الاحتجاجية (أو بالأحرى الحراك الاجتماعي، نعود هنا إلى فكرة احتجاجات الحركة الطلابية لعام 1968) التي «تثور ضد هذا النظام الاجتماعي وضد المؤسسات التي أنجبها». بيد أن عمله الفكري لم يتوقف عند هذه الحدود، إذ جعلته أحداث مايو 1968، في الانتباه أكثر إلى مختلف «الحركات الاجتماعية الجديدة» التي كانت تحمل شعارات مخالفة للسائد وبخاصة شعارات وموضوعات العمالية الاشتراكية، يقول تورين «ألم ينتهِ زمن الصراعات الاجتماعية، العلاقات بين الطبقات، الحركات الاجتماعية؟» سؤال أساسي، في مسيرته، طرحه في كتابه «الصوت والنظرة» (1978) الذي جاء بمثابة خلاصات مبكرة لمفاهيم السوسيولوجيا والحركات الطلابية والمناطقية، كما الحركات النسوية، الخ.
بدءا من تحقيقاته الميدانية الأولى في مصانع رينو (في خمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وكان عمّال شركة السيارات هذه موضوع أطروحته الجامعية) وصولا إلى نصوصه الأخيرة حول تحولات الرأسمالية «المضاربة»، لم يتوقف هذا المسافر المتحمس أبدًا عن مراقبة العالم الاجتماعي، وتغيراته العميقة، وخطوط الانقسام الجديدة التي يشهدها، وموارد السخط والحرية أيضًا المتموضعة فيه. وبالتالي، أدت هذه الأفكار كلها إلى انتقاده حركة الإضراب في كانون الأول (ديسمبر) 1995 ضد إصلاح الضمان الاجتماعي، إذ برأيه أن هذه الحركة لم تطرح الأسئلة الصحيحة، بل ركزت على الدفاع عن الموظفين فقط. وهذا ما جلب له الاتهامات بأنه أصبح ليبراليًا، ما جعله يدافع عن نفسه في كتاب («كيف تخرج من الليبرالية؟»، 1999). في العام 2013، تكهن في كتابه «نهاية المجتمعات» بظهور «نوع آخر من الحياة الجماعية والفردية القائمة على الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية ضد كلّ منطق المصلحة والسلطة».
هذا الاتهام (إذا جاز القول) بالليبيرالية أزعج هذا المثقف «اليساري»، لكن في الحقيقة أيضا، كان شخصا مُقدّرا جدا ومحترما كثيرا في طروحاته من «اليمين» الذي احتفى به بدوره، كما بكتبه الكثيرة التي تصف «دينامية تحول المجتمع». قد يكون هذا «الاتفاق» على دينامية فكر تورين رغبته الدائمة في محاولة تسليط الضوء على كلّ الصراعات التي نشهدها في عالمنا المعاصر. من هنا جاء حديثه عن المجتمع وسرد نزاعاته بمثابة دعوة جذرية من مثقف فعلي وحقيقي ولامع، يمتلك فضولا بلا حدود، لقراءة مجتمعه، ما جعله «يؤسس مدرسة مزدوجة»: في الفكر (والأدب بمعناه الواسع) كما في التحرر من جميع أشكال الهيمنة.
عن صحيفة عمان