د. سندس الزبيدي
على اثر تحول مياه الفرات الى فرع شط الهندية، بدلاً من فرع الحلة، الذي شحت فيه المياه، وجرت محاولات سابقة لعهد الوالي محت باشا لمعالجة تلك المشكلة. وترقى اولى تلك المحاولات الى سنة 1252هـ/1836م، عندما قام الواليان علي رضا باشا اللاز، ومحمد نجيب باشا (1258 ـ 1266)هـ/(1842 ـ 1849)م،
بانشاء سدة على فرع الهندية لغرض تحويل مياه الفرات الى فرع الحلة، الاان السدة مالبث ان تحطمت سنة 1268هـ/1851م وتدفق منها الماء، وفي سنة 1275هـ/1858م بني سد جديد لتوفير المزيد من المياه الاانه مالبث ان تصدع.
وامام فشل تلك المحاولات وكثرة شكاوى الاهالي من استمرار الحالة شكل الوالي مدحت باشا لجنة مؤلفة من عدد من مهندسي الري، لوضع دراسة تفصيلة ومقترحات عملية لمعالجة تلك الحالة. حيث استمر العمل لمدة تزيد على الثلاثة اشهر، ويبدو انه تغلب على المشكلة بدليل اشارة جريدة (الزوراء) الى ذلك احد اعدادها، ان نهر الحسينية(*) الذي يبس ماؤه من ثلاثة اشهر، واوقع النفوس الوافرة العدد في كربلاء باظطراب العطش، وصات عملياته مرتب الختام واطلق ماؤه. الاان هذه المشكلة لم تنته اذ سرعان ماعادت وتجددت من جديد بعد سنوات.
ولم يكن النجاح حليف غالبية المشاريع التي اضطلع مدحت باشا بتنفيذها في العراق. وقد عزي سبب فشل تلك المشاريع الى نقص الاموال، وقلة الخبرة الفنية فضلاً عن انعدام الدراسات الاولية، والعمل بشكل مرتجل في اغلب المشاريع الاورائية، علاوة على عدم اهتمام الولاة من بعده بتلك المشاريع. وقد شخص لونكريك اسباب فشل هذه المشاريع بقوله "ان الاعمال لم تكن تتعدى القيام باجراءات لتنظيم الاعمال المحلية والطفيفة، حيث ان الاداة لم تمتلك المعرفة ولا السيطرة ولا المال الضروري لذلك". وابدى بعض الولاة الذين اعقبوا مدحت باشا نوعا من الاهتمام بموضوع الري، ولو بشكل نسبي ومحدد، نذكر منهم والي بغداد رديف باشا (1873 ـ 1875)م الذي انشأ سد الجزائر الاانه لم يكن محكم البناء ولم تتبع في بنائه القواعد العلمية مما ادى الى تصدع السد وانهياره.
وفي اطار جهود السلطان عبد الحميد الثاني لاصلاح احوال العراق بشكل عام والواقع الزراعي بشكل خاص الذي تزامن مع استحداث الدائرة السينية، "دائرة قومسيون السنية" فقد تم الايعاز الى بعض الولاة لتقديم افضل السبل والمقترحات لاصلاح احوال العراق وامتثالاً لهذه الاوامر قدم والي بغداد عبد الرحمن باشا (1879 ـ 1881)م تقريراً الى السلطان العثماني عرض فيه صورة تفصيلية للاوضاع التي كانت تعيشها بغداد ابن تلك المرحلة واما الزراعة والري فقد اشار الوالي في تقريره الى تدني مستوى الزراعة والري، وقد اقترح انشاء السدود لخزن المياه، لاستخدامها عند الحاجة، كما تطرق الى ماتسببه الفيضانات من اضرار كبيرة على المزرعات، علاوة على تاكيده تجفيف المستنقعات بغية استغلال اراضيها للزراعة، ناهيك عن التخلص من المخاطر التي تنجم عنها.
وفي اعقاب تجدد المشكلة القديمة الناجمة عن تحول مياه الفرات إلى شط الهندية بدلاً من شط الحلة، اسهمت دائرة السنية في ايجاد حل مؤقت لهذه المشكلة عندما اوعزت بتشكيل لجنة مؤلفة من متصرفي الحلة وكربلاء، ومحسن بك مدير الكشف في دائرة السنية الذي
قام بكشف الهر واوصى بسد جزء من صدر فرع الهندية المسمى "الردارء") فضلاً عن ظاهر افندي وكيل السنية، وبعض اصحاب الجنرة ونتيجة لاعمال هذه اللجنة فقد تمت ازالة مافي النهر من الموانع كالجزرات وغيرها.
وعلى اثر تفاقم مشكلة مياه شط الحلة التي اخذت بالجفاف اثر تحولها إلى شط الهندية وما رافق ذلك من تدهور في انتاج المنطقة الزراعية نتيجة لعدم توافر كميات المياه الكافية لسقي المزروعات، وفي اعقاب انقطاع المواصلات الهندية على طريق نهر الفرات بين الحلة والبصرة. وعلى اثر استغاثة أهالي الحلة والديوانية، انصب اهتمام الدولة ابان تلك المرحلة على إنشاء سدة الهندية. وكانت فاتحة اعمالها استقدام المهندس الفرنسي شوندرفرM. Schonder ومساعده ثيودور دوران، اللذين اجريا كشفاً للمنطقة الممتدة على طول نهر الفرات وحتى مسكنه تمهيداً لإنشاء السدة. وبعد عام تقريباً قدما تقريرهما إلى الوالي سري باشا معززاً بالخرائط. وقد احاله الوالي بدوره إلى وزارة النافعة والاشغال العامة لاستحصال المواقفة على تخصيص الاموال اللازمة لتنفيذ المشروع وقد اسهمت خزينة الدولة بنصف الاموال المطلوبة، أما النصف الاخر تم تأمينه من الخزينة الخاصة، وواردات الاراضي السنية(*)، وممن كانت له مصلحة من الأهالي في بناء السد، حيث بلغت مجموع الأموال المستحصلة للمشروع 1.733.998 قرشا و 33 بارة.
جرى البناء بوتيرة عالية وبإشراف من الوالي سري باشا، حيث قدمت جدرية (الزوراء) في أحد تقاريرها وصفا لمساحة السد، الذي امتد من نهر الهدية إلى مجرى الحلة وبارتفاع (6) أمتار، وعرض(100) متر، وبطول 1200 متر.
كما ناشد الوالي رؤساء عشائر الحلة والهندية المساعدة، فاستجابوا وأمدوه بعدة آلاف من العمال الذين تمت الاستعانة بهم في حفر صدر السد. وجرى افتتاح السد في 25 تشرين الثاني سنة 1308هـ/1890م وعرف باسم "سد شوندرفر" تيمناً باسم مهندسه. ونتج عن بناء هذا السد إعادة المياه إلى شط الحلة، كما تشير بعض الدراسات إلى أن المياه الزراعية عادت إلى مجاريها إذ بدأت الحياة الاقتصادية في الحلة والمناطق المحيطة بها بالانتعاش من جديد بعد الانتهاء من أعمال تلك السدة سنة 1308هـ/1890م. غير أن السدة لم تصمد طويلاً، لأسباب عدة منها الترسبات المستمر
أما بالنسبة لسدة الهندية فإنها لم تصمد طويلا إذ سرعان ما تعرضت للإهمال بعد نقل ضالوالي سري باشا وتصدعت بعض جوانبها 1314هـ/1896م)، مما استدعى القيام بإصلاحات بلغت كلفتها 174475 ليرة تركية. لتنهار مرة اخرى على اثر فيضانات سنة 1321هـ/1903م.
ما بالنسبة إلى أسرة الهندية التي أخذت بالتدهور السريع على اثر التداعي الجزئي الذي لحق بها بعد فيضان سنة 1321هـ/1903م. حيث تدفقت معظم مياه الفرات إلى شط الهندية مجددا، مما أدى إلى انخفاض كبير جداً في مياه شط العرب الحلة مخلفا وراءه الدمار والخراب في مناطق الحلة والديوانية والدغارة. لمعالجة المشكلة أوفدت الحكومة العثمانية المهندسين الفرنسي موجل M. Moujel لبناء الاستحكامات اللازمة لسدة الهندية وتعميرها. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في شط الحلة، فنتج عن ذلك إحياء مساحات كبيرة من الأراضي بما فيها أراضي السلطات المعروفة بالأراضي السنية.
إلا أن السدة سرعان ما تعرضت للانهيار مرة اخرى، واصبحت الحالة في شط الحلة اسوأ مما كانت عليه قبل إنشاء السدة. وامام الوضع المتردي الذي امست عليه السدة استقدمت الحكومة العثمانية خبير الري الفرنسي شوشود سنة 1323هـ/1905م، فقام بدراسة المشكلة ثم قدم تقريره الفني المتضمن تصوراته للمشكلة ومعالجتها، إلا أن تلك المقترحات ونتيجة للإهمال والتسيب الإداري العثماني. لم تأخذ طريقها للتنفيذ وبالتالي فإنها بقيت جسراً على ورق. مما نجم عنه بقاء مناطق مهمة من العراق تحت وطأة الظروف الطبيعية المتقلبة.
وفي سنة 1324هـ/1906م انتبذت الحكومة العثمانية خبير الري (ردي كونيية) لدراسة إمكانية بناء سدة هندية ثانية(). ويبدو أنه لم ينجح في وضع حد للمشكلة بديل استمرار الوضع المتدهور للشدة على ما هو عليه
ولاشك أن الخراب الذي أصاب سدة الهندية بعد سنة 1326هـ/1908م قد الحق أضراراً بمجمل النشاطات في الحلة، لاسيما الزراعية منها، والتي أثرت بدورها في المستوى المعيشي للسكان وفي واردات الخزينة ففي سنة 1327هـ/1909م بلغ نقصان تلك الواردات نسبة كبيرة تزيد على النصف مقارنة بالأعوام السابقة إذ تدنى مقدار الواردات إلى 41317 ليرة بعد أن كانت سنة 1326هـ/ 11908م (93431) ليرة
وجدت الدولة العثمانية أن مشكلة المياه في العراق بدأت تزداد سوءاً، وتترتب عليها مشاكل اقتصادية واجتماعية، ولمعالجة الموقف المتأزم، انتدبت الحكومة العثمانية مهندس الري الانكليزي وليم ويلكوكس W. Willcocks ليقوم بدراسة مشكلة الري بشكل ميداني واقتراح الحلول الناتجة لمعالجة هذه المشكلة واعداد التصاميم الفنية لإحياء مشاريع الري في العراق، فقام بزيارة العراق سنة 1326هـ/1908م وبرفقته (12) مهندساً مع عدد من المساحين وبعد أن مكث زهاء السنتين والنصف أنجز خلالها التحريات الفنية اللازمة قدم إلى وزارة الأشغال العامة (نظارة النافعة) تقريراً مفصلاً ضمنه كل آرائه وأفكاره في معالجة مشاكل الري، وأرفق التقرير المذكور (84) خارطة وتصميمات للمشاريع التي يتوقف عليها إعمار الأراضي وإنعاش البلاد وتخليصها من أخطار الفيضانات.
عن موقع (تاريخ الحلة)