من التجارب النسوية في العراق في الحلة.. كانت لنا أيام

من التجارب النسوية في العراق في الحلة.. كانت لنا أيام

بلقيس شرارة

عين والدي مدرساً في ثانوية الحلة للبنين، و انتقلنا إلى دار ذات ساحة صغيرة، تحيطها الغرف ذات الطابقين، و لم يكن في الساحة أشجار كما كانت عليه دارنا في مدينة الناصرية.لم تعد والدتي معنا إلى الحلة، بل قضت عاماً كاملاً في لبنان. فجاءت عمتي خديجة، لكي تحل محلها.

لم تهتم عمتي في مظهرنا أو دراستنا، و شعرنا بفقدان اهتمام والدتي الخاص بنا. أصبحتُ أعد الأيام و الأسابيع و الأشهر بانتظار والدتي، و شعرت ببطء دوران عجلة الزمن و ثقلها بالرغم من اهتمام عمي مرتضى بنا و محاولته تسليتنا و إبعادنا عن الملل و مرارة الإحساس بفراق و بُعد أقرب الناس لنا!

كان شعري طويلاً، و ليست لي القدرة على غسله، و أصبح قبل انتهاء العام الدراسي، عشاً لتكاثر بيوض القمل، و عبثاً حاولت شقيقتي مريم مساعدتي في تنظيفه، فقد تحول إلى بؤرة و مرتعاً يتكاثر القمل فيه بحرية تامة. كانت أعشاش القمل متماسكة البنيان، متراصة ببعضها تتساقط عندما أمشط شعري بسرعة، أو عندما أهاجمه بسكب طاسات من الماء الساخن، فيسقط بعضه تحت قوة الماء، و يطفو القمل الميت في الطست، و يعود رتل من البيض المتشبث و العالق بشعري لبناء أعشاش جديدة، تمص جلدة رأسي. كنت أحلم في اليوم الذي سأتخلص من هذا العبء، فقد شاركني القمل شعري الحريري الملمس، المجدول بجديلتين، تنتهيان بشريطين جميلين.

مّر ذلك العام بشتاء قارس في الحلة، فقد تجمدت المياه في أنابيب البيوت و بجانب أرصفة الشوارع، و كانت المياه المتجمدة في الشوارع و على الأرصفة تأز تحت أقدامنا. فذهبت عمتي للسوق و اشترت لنا قماشاً كحلي اللون من الصوف الفاخر، و أخذتنا إلى الخياط و انتخبتْ الموديل/ الطراز لنا. و اعتبرتنا طفلتين ليس لنا القدرة على التمييز و الاختيار.

و كردود فعل لا عقلانية من قبلي، ربما للشعور بفقدان والدتي و بُعدها عني من جهة، و عدم اصطحاب عمتي لنا من جهة أخرى، بل اختارت نوع المعطف الذي علينا أن نرتديه، لدرء برد الشتاء، رفضتُ ارتداءه و فضلت الذهاب إلى المدرسة من دونه. و قد لاحظت بعض المعلمات اللواتي كان لمعظمهن معرفة أو صداقة بعمتي، من أنني أرتجف أحياناً من شدة البرد في الصف. فعندما علمت عمتي من أنني رفضت لبس المعطف، و هو نوع من الاحتجاج الصامت، إذ كنا معتادين على صغر سننا مرافقة والدتي إلى السوق في اختيار ملابسنا، و كنا نختار حتى ألوان أقمشة الفساتين التي كانت تخيطها لنا. فانزعجت عمتي من سلوكي و أخبرت والدي، و تفادياً للمشكلة التي أثارها المعطف بيني و بين عمتي، أخذني والدي إلى السوق و اخترت جاكيت من الموهير الوردي اللون، وقتني طيلة فصل الشتاء من البرد.جابهتني مشكلة حفظ الآيات القرآنية عن ظهر قلب بصورة صحيحة. لم أكن أجد صعوبة بدرس القراءة و لكن أصبحت مشكلتي واضحة في حفظ "جزء عم". تفاقمت المشكلة و أصبحت أكثر تعقيداً في كون والدي محمد شرارة، أستاذ اللغة العربية في ثانوية الحلة! فكان أي تقصير يتعلق باللغة العربية بغض النظر عن صغر سني، و كأنه انتقاص بحق والدي! لم تكن لي الجرأة على مفاتحة والدي و الإقرار بضعفي في حصة الدين، التي لم تكن من الدروس الإجبارية في تلك المرحلة من الدراسة الابتدائية.

كنت أحس بنوع من الحسد عندما تترك حصة الدين التلميذات من اليهود و المسيحيين، فقد أصبحت حصة الدين عائقاً أمامي لا استطع التغلب عليها، و كم تمنيت أن أعفى منها أيضاً. و اعتقدت في البداية أنني أستطيع التخلص و التهرب من حفظ درس الدين، و لكني كنت مخطئة في هذا التصور، فقد أخبرتْ معلمة العربي عمتي عن ضعفي بهذه المادة، و وجدتُ نفسي أمام واقع حرج، إذ أخذ والدي على عاتقه مهمة الإشراف على تدريسي الآيات القرآنية.

سينما بابل في مدينة الحلة

كانت سينما بابل السينما الوحيدة في الحلة، و كان عمي مرتضى صديق أبن صاحب السينما، فيحجز لنا "لوج" مقصورة في السينما ليلة الخميس. كان الإعلان عن الفلم عن طريق عربة تسير في شوارع الحلة الرئيسة عصر الخميس، يجرها حصان واحد، تحمل لافتة كبيرة مزدوجة يراها المارة من الجهتين، عليها أسم الفلم الجديد مع صور الممثلين المهمين، و يجلس بجانب الحوذي شخص يعزف على الطبل، أو يعلن بأعلى صوته أسم الفلم. تطورت العربة بعد ذلك إلى سيارة مع مكبرة للصوت بدل الطبل.

كنت أشاهد معظم الأفلام من دون تمييز إن كانت هندية أو مصرية، و كنا نتغيب عن السينما أيام الامتحانات فقط. كنا نجلس بصحبة عمي في إحدى المقصورات التي تقع عادة في نهاية قاعة السينما نطل منها على الحاضرين. العزل آنذاك كان تاماً بين الرجال و النساء في الحياة الاجتماعية اليومية في مدينة الحلة حتى في السينما. فخصصت أوقاتاً معينة لحضور النساء و أخرى للرجال، فالسينما كانت من وسائل الترفيه القليلة يترقبها الجنسان.

بعد انتهاء العرض المسائي المخصص للنساء، تبدأ عملية تنظيف السينما برفع تلال من قشور حَباللقطين و الفستق التي كانت تجلبها النسوة للتسلية أثناء مشاهدة الفلم. كانت عملية التنظيف تستغرق وقتاً طويلاً، يتوقف التنظيف مع بدء عرض الفلم المخصص للرجال، وجلوس المشاهدينفي مقاعدهم،فتترك في بعض الأحيان تنظيف المقصورات و تتركز الجهود على تنظيف القاعة، فنسير عندئذ على سجادة من القشور التي تغطي الأرض و الكراسي أحياناً.

لم تكن تهمنا قصة الفلم، فلم يكن لنا الإدراك الكافي لفهم مغزى القصة، و كنا نفضل مشاهدة الأفلام المصرية و الهندية التي تتخللها فترات طويلة من الغناء، رغم إن القصة لا تحتاج إلى فاصل موسيقي غنائي. كان اختيار معظم الممثلات يرتبطبجمال اشكالهن و أصواتهن و ليس لموهبتهن أو قدرتهن على التمثيل.

ماأن يبدأ عرض الفلم، حتى تتركز أنظاري على الشاشة، رغم الجمهور و تعليقاتهم لإظهار عواطفهم و أحاسيسهم فترتفع صيحاتهم بتعليقات بذيئة على أحداث الفلم، أو مشاركة بطلة الفلم بالغناء، إن كانت لهم معرفة بالأغنية، مكونين كورساً حياً من المغنين. غير أن هذه الأصوات كانت لا تصدر بصورة اعتباطية، و إنما حسب نظام، و أصبحت تقليداً عند رواد السينما. و بين الصفير و ردود الفعل الحماسية، كنا نخسر بعض الحوار الذي يعيقنا عن التركيز و على ما يجري من مسار القصة و تسلسل أحداث الفلم، خاصة إن كانت يد الرقيب واضحة في بتر جزء منه بسبب قبلة من قبل الحبيبن.

كانعميمرتضى، يشرح لنا الأفلام الهندية لعدم مقدرتنا على قراءة الترجمة التي كانت تتغير بسرعة. و كنانشعر بالتعب، من كثرة التلفت يمنة و يسرة.فالترجمة العربية للفيلم الأجنبي تعرضعلى شاشة صغيره بجانب الشاشة الكبيرة. وظلهذا النهج متبعاً، حتى بدأت الترجمة على شريط الفيلم نفسه في أسفل الصورة، و أراح أعناقنا من كثرة التلفت.

و إن انتهى الفلم نهاية مفجعة، ترى العيون المحمرة و الأيادي المرتفعة بالمناديل البيضاء تمسح ما تبقى من الدموع عندما يخرج المشاهدون من صالة العرض.

أثرت تلك الأفلام على خيالنا و وسّعت مداركنا. كنا مريم و أنا، نستعيد قصة الفلم الذي شاهدناه في الليلة الماضية و نتحدث عنه بالتفصيل، كأننا نبحث موضوعاً مهماً. أصبحنا ننتظر مساء الخميس بشوق و لهفة، إذ كان عالمنا صغير و محدود. لميكن هناك أي نوع من التسلية الرياضية للإناث كالسباحة أو لعب الكرة مما كان مسموح به للأطفال من الذكور.

كما كانت تقام كل عامفي إطار النشاطات السنوية الثقافية في مدينة الحلة مسرحية في ثانوية البنيين و أخرى في ثانوية البنات. كنا نذهب بصحبة عمتي خديجة لمشاهدة المسرحية التي تعرض في ثانوية البنات، و بصحبة عمي مرتضى لمشاهدة المسرحية التي تقام في ثانوية البنين. كان الممثلون من الذكور، يتقمصون أدوار النساء كما هي الحال في المسرح الياباني "الكابوكيKaboki و نوNoa" أو كمسرح شكسبير في العصر الاليزابيثي، فتناط الأدوار النسائية بالشباب من أصحاب الوجوه الجميلة، إذ يعتبر من المحرمات إناطة دور نسائي لفتاة من ثانوية البنات.

قام بدور المرأة عن تلك المسرحية يعسوب رفيق و هو من أصدقاء عمي مرتضى، و من عائلات الحلة المعروفة، و قد التحق فيما بعدبالسلك الدبلوماسي. كان شاباً جميلاً لدرجة من الصعب تصوره رجل عندما تقمص دور امرأة، إلا أنني التقيت به مع عمي، و ظل جماله الآخذ مهيمن عليّ، و أطلت صورته التي حفظتها عنه بمخيلتي عندما التقيت به بصحبة زوجي رفعة، بعد عقد و نصف في نادي المنصور ببغداد حيث صار أباً لثلاث بنات، و أصبح من أصدقائنا المقربين.

عن كتاب (هكذا مرت الايام) الصادر عن مؤسسة المدى.