عراب المسرح العراقي

عراب المسرح العراقي

سعدي عبد الكريم

من اجل أن نكتشف مناطق الضوء، ومواطن التألق، ومكامن الجمال داخل تلك الومضة الخلابة الفنية للسفر المضيء لعراب المسرح العراقي، الرائد المبدع الكبير (اسعد عبد الرزاق) عبر تلك الملامح البغدادية الجملية التي تستقر بطمأنينة أخاذة داخل مفاتن أخلاقه العالية المؤطرة بذلك السحر الإنشائي الأول الذي يملأه التودد والحب لكل مظاهر ذلك التكوين الجميل،

بل ولكل الأشكال والمسميات، ولجل من زامله طيلة فترة مسيرته الفنية الطويلة، التي امتدت لأكثر من ستة عقود ونيف، وهو القادم من أريج شط (المسيب) محملا بكل ذلك الزهو الفتيّ، الذي أراد أن يرسم من خلاله لوحته الأسطورية الفنية الجميلة، بجل تصانيفها الإبداعية.

انه رائد من رواد المسرح العراقي، ودعامة من دعائمه المأخوذة به، بل مرتكزا من مرتكزاته الفاعلة الحية، والذي أطلق عليه الفنان المخرج المبـدع (صلاح القصب) لقب (شيخ الفنانين العراقيين).

بدأت علاقة الفنان الكبير (اسعد عبد الرزاق) بخشبة المسرح بداية مبكرة فراح يوثق لتلك المواشجة الحميمة المتألقة، وفق شرائط رحلة عشق أزلية، ابتدأت ومضاتها المتقدة الأولى منذ مراحل الطفولة وتحديدا أثناء دراسته الابتدائية، وهو في الثامنة من عمره المديد، حيث كان يلقي الأناشيد في باحة المدرسة باسترخاء ممثل مقتدر متمكنا من أدواته الفنية، وبإلقاء مسرحي مثيرا للإعجاب، ربما لم يدرك او يكتشف هو ذاته تلك الملكة الفنية الراقية وقتذاك، بعدها راح يغازل مناخه الأخاذ الفاتن (خشبة المسرح) ليسهم في تدوين سجل تاريخه المسرحي المجيد، ففي تلك الفترة، جسد دور (الطفل) في مسرحيـة (الأقدار) ومن محاسن الصدف التي سجلها له التاريخ، هو اختياره من قبل الفنان الراحل الكبير(حقي الشبلي) في دور(عماد) في مسرحية (الصحراء) للفنان الراحل الكبير (يوسف وهبي).

الفنان الخلاق (اسعد عبد الرزاق) ذلك الكيان المتوهج بومضة الخلق المبدعة المتألقة، والمأخوذ بذلك الحب العذري لباحة المسرح أولا، ولباحة وحدائق وقاعات الدراسة والتدريس في كلية الفنون الجملية ثانيا، والتي يجد فيها ضالته الكبرى في اثبات إنسانيته المترعة بالحب والجلال، وبملاحم التنظير العلمي الأكاديمي لفن المسرح.

(اسعد عبد الرزاق) ذلك النسيج (المسيباوي) (البغدادي) الذي عانق شذا بغداد وعاش في كنفها جل حياته، ذلك الإنسان الشفيف، الذي تغلفه الوداعة، ويواشجه الحب القديم - الجديد لبغداد الخير، حينما تجالسه، تجد نفسك أمام قامة تطاول عبق الجدران البغدادية الجملية، لكونه ينفذ الى القلب بلا استئذان، وربما تنقلك تلك الرؤى الحالمات التي تكتنفه بذات اللحظة الخلابة التي تنظر لوجهه المحتدم التقاسيم، الذي بانت عليه شذرات الكبرياء والفحولة، التي طبعها الدهر فوق ملامحه الموجعة القديمة، لكنك تكتشف رغم ذلك، بأنك تجالس شابا في العشرين من عمره، مليئا بالحيوية والنشاط، ومفعما بالعشق، وبخاصة حينما يكون الحديث عن ملاذه الجليل (المسرح) ليبحر بك صوب ملاذاته الخصبة القديمة بانسياب جميل مشفوع بأرشفة تاريخية عجيبة التواقع في صلب الزمكانيات، وجوهر الأحداث، ربما يرجع ذلك لتوقد ذاكرته الحية التي ما زالت تنبض بالجلال، والكبرياء المسرحي.

ولد (اسعد عبد الرزاق) في بغداد عام 1923، تخرج من كلية الحقوق / جامعة بغداد بعدها حصل على الدبلوم من معهد الفنون الجميلة / بغداد عام 1957، تخرج من معهد (شاتروف) للتمثيل في ايطاليا، ساهم في ترسيخ دعائم الفن العراقي، بجل تصانيفه الإبداعية.

ومن اجل الوقوف على دكة المحطات الفنية المبدعة لـ(اسعد عبد الرزاق) العديدة والمتعاقبة، بتواتر إيقاع معمليته المسرحية ومنتجه الإبداعي، ومخاصب تجاربه التنظيرية والتدريسية، فقبل عام 1955 عين مدرسا للتمثيل في معهد الفنون الجميلة، ومدربا ومشرفا على المدارس الإعدادية في بغداد، بعدها سافر الى روما وتحديدا عام 1955، وبقيّ هناك لمدة أربع سنوات، لدراسة فن المسرح، وعاد في عام، 1959، ويبدو أن من المحطات الرئيسية في حياة وتاريخ الفنان (اسعد عبد الرزاق) هي تلك التي أصبح فيها رئيسا لفرع التمثيل في معهد الفنون الجملية.

ومن اجل ان نؤكد على حقيقة تلك الدراية المشغوفة بالق فن المسرح التي تسكن هواجس هذا المبدع الكبير، علينا ان نُشير الى ظاهرة فريدة من نوعها تبقى علامة مضيئة منيرة على رأس المحطات الرائعة الجميلة في حياة الفنان المبدع الكبير (اسعد عبد الرزاق) وهي من أروع الأزمنة، بل من أخصب وأجمل التواريخ، والمحطات التي سجلت بأحرف من ماسٍ بغدادي لتاريخه المجيد الحافل بتلك الخلجات الفنية التي راح يترجمها بألق وروعة على أرضية الواقع، تلك اللحظة المجيدة الخالدة، هي لحظة تأسيسه لفرقة (14 تموز) مع جملة من الفنانين العراقيين، تلك الفرقة الخالدة التي أنجبت العديد من رموز الفن العراقي بمجمل مناخاته الإبداعية الرائعة.

ولعل الذي يبقى خالدا في الذاكرة الجمعية تلك المسرحية الشعبية البغدادية العراقية الأصيلة (الدبخانه) تأليف الفنان المبدع (علي حسن البياتي) ذلك العمل المسرحي الذي ظل خالدا يحاكي الذاكرة العراقية على مدى أكثر من خمسة عقود وهو يقف شامخا على رأس الأعمال المسرحية العراقية الخالدة التي يحن لها ذلك الإحياء الخفي بالانتماء للوطن أولا، ولفن المسرح العراقي ثانيا، ولمتعة الفرجة البغدادية الأصلية ثالثا، رغم أن الوضوح كان قائما بتواضع الإمكانيات التقنية والفنية المسرحية وقتها، لكنه كان عرضا مسرحيا مدهشا، استنفر قوام المشاهدة التلفزيونية لأعوام خلت، وسيبقى خالدا على مدى العقود القادمة، لأنه يمتلك ذلك الحس الشفيف الذي يربط العرض المسرحي بالاستجابة الحقيقية لفرضية المشاهدة، لتحقيق منهجية البهجة والفرجة ابتداءا، ومن ثم ليحيلها بذات اللحظة الى التغيير عبر الوعظ المباشر، ولأنه كان من إخراج هذا المبدع الكبير (اسعد عبد الرزاق) الذي أضاف اليه من ملكته الإخراجية السلسة، ذلك الإضفاء الابهاري البغدادي الأصيل، وبأدوات فنية بسيطة، ومما ازدان به ذلك العرض المسرحي الرائع هو ذلك الأداء التمثيلي الرائع السهل والغير (اندماجي- معقد) والواضح المعالم والأطر، والمؤثث باسترخائية تجسيدية محببة واقعية المذهب والإسقاط، والمقرونة بدلائل استقرائية واضحة للشخصيات، والذي أبدع في صياغة وتقريب العرض الى الأذهان بغض النظر عن ارتباطها المعرفي والثقافي أثناء عملية التلقي والاستقبال، وأشاع أيضا في مواطنها روح البهجة والمتعة والفرجة المثالية، وكان مجسدي الأدوار الرئيسية فيها الفنان الراحل المبدع (وجيه عبد الغني) والفنان المبدع الكبير (قاسم الملاك) كانا مبدعين في تجسيد أدوارهما، لأنهما ارشفا لعمل مسرحي عراقي رائع أصيل، اخترق بثبات مواطن الذاكرة، ليستقر مطمئنا بداخلها.

في عام 1967 عمل الفنان (اسعد عبد الرزاق) أستاذا مساعدا في أكاديمية الفنون الجملية، ثم مساعدا للعميد فيها، ثم عميدا لها من عام 1972 الى عام 1988.

ومن خلال عمله أستاذا قديرا، وعميدا مخلصا متفانيا في أداء عمله في أكاديمية الفنون الجملية، اشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه لطلبته الذين أصبحوا فيما بعد أعمدة كبيرة، وقامات شامخة وأسماء مهمة في عموم مخاصب الفن، والمسرح العراقي.

الفنان والمعلم الكبير (اسعد عبد الرزاق) تلك القامة الخالدة في الذاكرة الجمعية، والملاذ الدافئ، والحاضنة الحضارية العلمية والمعملية الأكاديمية التي تررع بداخل ثيماتها الناهضة جل الفنانين العراقيين.

يا أيها القمر النير الذي يشع في سماء فن المسرح العراقي، والذي لا يطاله الظل ولا الحرور، ويظل نوره يداهم الليالي والصباحات المورقة، ليُعرش فوق متاهاتنا المدلهمة الفائتة، لنستضيء بظله الوارث، وحكمته العبقرية، وعلميته الأكاديمية الراقية.

إليك ايا الراحل يا (عراب الفنانين العراقيين) وشيخهم النبيل الجليل، نهدي أجمل التحايا واجلها، ونحمل إليك في ثنايانا (العتيقة - الجديدة) عبق وأريج العراق، ذلك الوطن المتألق الذي يتربع في القلوب، ويسكن في المآقي، لعلنا نغفر لأنفسنا شيئا من خطايا نسيانك، وان كنت على الدوام تسكن في سويداء الأفئدة، ومحاجر العيون، لأنك شاهدا مجيدا من شواهد فطنتنا المعرفية الإبداعية التي تخالج أذهاننا، بل وتؤشر معالم مفاتننا الفنية، وتجدد فينا ملامح تجاربنا المسرحية، وتوقض في لواعجنا مفازات القيض، لتسقيها بغيث المعرفة، التي نستقيها من مطر سماءك المخصب، لأنك ذلك (الجابي) الذي نُقشَ في ذاكرة السينما العراقية، ولأنك (عراب) المسرح العراقي