عبد الخالق كيطان
لا أستطيع كتابة شيء مختلف، أو بعيد عن ما تعرفونه، عن الرائد الكبير أسعد عبد الرزاق، الذي وافته المنية يوم السبت الماضي، عن عمر يناهز الثمانية والثمانين عاماً. ولكنني أكتب في رثاء هذا المعلم الكبير لأن الكتابة عنه، وعن أمثاله، شرف أكبر بكثير عن الكتابة في شؤون سياستنا وساستنا.
والأستاذ أسعد، هو عميد كليتي التي درست فيها، قبل أن يسلّم العمادة للدكتور عبد المرسل الزيدي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ومن بين يديه تخرج الآلاف من دارسي الفنون الجميلة، ولكن دوره البارز في فيلم "الجابي"، وإشرافه على فرقة مسرح 14 تموز، وإخراجه لمسرحية "الدبخانة"، هي أبرز العلامات التي ستظلّ شاخصة في مسيرة المسرح، والفنون العراقية، إلى الأبد.
في عمادة كلية الفنون الجميلة أمضى أكثر من خمسة عشر عاماً شهدت فيها الكلية نهضة على مختلف الأصعدة. كان مزاجه المسالم، وقدرته على محاورة الجميع، وفسح المجال لمختلف الآراء، أبرز الأسباب التي دفعت بالأكاديمية، في هذه السنوات، لتكون مناراً، وبؤرة للتنوير. سنوات طويلة كانت التقلبات السياسية حينها شاخصة، والقدرة على الحركة الحرّة صعبة، بل ومستحيلة في أحيان، وكان على كلية بارزة، هي كلية الفنون الجميلة، أن تعوم وسط بحر من المتناقضات الخطرة ما يستوجب وجود ربّان ماهر وقادر على ذلك بالفعل، فكان أسعد عبد الرزاق.
ولعل قيادته لكلية الفنون الجميلة أثّرت بشكل مباشر على مشروعه المسرحي. ففي هذه السنوات خفت بريق الفرقة التي ارتبط أسمه، وأسم الفنان الراحل وجيه عبد الغني، بها، وهي فرقة 14 تموز. كما أن نشاطه الشخصي في المسرح، والسينما، والتلفزيون، خفت إلى حد كبير. كانت الأكاديمية هي بيته. وكان جمهوره الذي يتابعه هم اساتذة وطلبة الأكاديمية. وهل ثمّة شرف أعمق واكبر من أن تكون مشرفاً على تخريج أجيال من عاشقي الحب والسلام.. عاشقي الجمال؟
رؤيته للمسرح كانت تنطلق من تربية ترى في المسرح مكاناً للتنوير والتغيير. المسرح الشعبي، دون سواه، هو المسرح الذي حلم به. لا غرابة، بعد ذاك، أن تكون مسرحيته "الدبخانة" واحدة من أشهر المسرحيات التي أخرجها، بل وأبرز المسرحيات العراقية التي يعرفها الجمهور، فهي تعرض من على شاشات التلفزيون، أو عبر موقع "اليوتيوب" منذ سنوات، وتحصد نسب مشاهدة عالية جداً بالقياس للتقنيات الفنية والتمثيلية التي أنتجتها.
وبالرغم من سنوات عمره المديدة، وما كان يعانيه من أمراض بسبب ذلك، إلا أن الأستاذ اسعد عبد الرزاق ظل وفياً، حتى آخر أيام حياته، للمسرح العراقي، فتراه مشاركاً، حيناً عبر المشاهدة، وحيناً عبر الملاحظة والرأي السديد. وكان مهرجان المسرح الأخير في بغداد، الذي كرّم فيه الراحل، قد شهد حضوره اليومي في جدول العروض، يشاهد، ويناقش، ويستمع. إنه المعلم الذي لا يبخل على تلامذته بشيء، وهو المعلم الذي يعشق مهنته. مهنة التعليم، فيتفانى في سبيلها ومن أجلها.
ليس غريباً، إذن، أن يصمت المسرح العراقي اليوم احتراماً وإجلالاً للأستاذ الذي علّم الأجيال. ليس غريباً أن يسود الصمت في أروقة كلية الفنون الجميلة حداداً على باني هذه المؤسسة العريقة، بل وحاميها، وراعيها.