د. غصون مزهر المحمداوي
لقد جرت عدة محاولات كانت تهدف لاصلاح الاوضاع السيئة في الريف العراقي خلال العهد الملكي غير انها كانت محاولات تحمل عوامل الفشل منذ لحظة رؤيتها النور، لذا لم تأخذ أي حيز في التنفيذ إلاّ في حدود ضيقة للغاية، حيث صدر عام 1936 قانون تشييد القرى الحديثة (رقم 70) غير انه لم ينفذ،
ومع الوقت ادت التطورات السياسية الى التوسع في تسجيل الاراضي واستغلال جهود الفلاحين، فنشأت دعوات اصلاحية لاصلاح الوضع المعاشي في الريف حيث قامت الحكومة عام 1940 باعداد لائحة قانونية لصيانة الاملاك الزراعية هدفت الى: -
صيانة الأملاك الزراعية الصغيرة بوضع حد ادنى يمنع خروجه من يد صاحبه.
ج –تشجيع الاملاك الزراعية الصغيرة والحيلولة دون حصر الاراضي الزراعية في ايدي جماعة قليلة وذلك بتعيين حد اعلى للمساحة التي يجوز لشخص واحد امتلاكها، مع استثناء الأملاك المسجلة قبل صدور القانون.
وفي عام 1945 أصدرت الحكومة القانون رقم " 33 لسنة 1945 " وهـو قانون " اعمار واستثمار أراضي الدجيلة ")، الذي يعد أول محاولة حكومية لتوزيع الأراضي الأميرية في الريف العراقي، وتوسيع الاستيطان بموجب قانون خاص باعمار واستثمار أراضي الدجيلة في محافظة (واسط) بعد إيصال المياه إليها من قناة الدجيلة المتفرعة من نهر دجلة واعتمد المشروع على سدة الكوت التي أنشئت قبل الحرب العالمية الثانية، إن هذا القانون لم يمنع الملاك من الشيوخ المقيمين في منطقة الدجيلة من الحصول على ما يقارب من نصف مساحة هذا المشروع وتسجيل الأراضي بأسمائهم.
وبموجب هذا القانون قسمت الأراضي في المشروع إلى وحدات استثمارية لاتزيد مساحة كل واحدة منها عن 200 دونم ولا تقل عن 100 دونم، توزع مجاناً على الفلاحين الذين يمتهنون الزراعة فعلاً وفق عقد خاص.
ولقد تطورت الدعوة إلى الإصلاح في الريف وأخذت منحى جديداً بعد ان أخذت الأحزاب السياسية تضع في مناهجها إعادة النظر في ملكية الأراضي الزراعية
وتحديد الملكيات الكبيرة بمقدار معين، لهذا شرعت الحكومة قانون الإصلاح للأراضي الأميرية دعته " قانون اعمار واستثمار الأراضي الأميرية رقم 43 لسنة 1951 "، الذي اصبح اعم من قانون اعمار أراضي الدجيلة حيث أصبحت فيه جميع الأراضي الأميرية الصرفة في العراق خاضعة له.
وبموجب هذا القانون جعلت مساحة الوحدة الزراعية التي سيجري توزيعها على صغار الفلاحين في المشاريع الزراعية كالآتي: -
في الأراضي الجبلية 20 دونماً.
في الأراضي السيحية 100 دونم.
في الأراضي العالية التي تروى بالضخ 200 دونم.
في الأراضي المطرية 400 دونم.
وكانت أهم المشاريع التي تم فيها توزيع الملكية الزراعية وفق هذه الأسس هي الدجيلة واللطيفية على جدول وترع اللطيفية جنوب بغداد، والمسيب الكبير في بابل، فضلا عن شهر زور في السليمانية ومخمور في اربيل، ومشروع الحويجة الذي تقع أراضيه على الضفة اليسرى من نهر الزاب الكبير وعلى بعد 60 كم من مدينة كركوك وتبلغ مساحة المشروع (377, 34) دونماً وتروى أراضيه سيحاً من جدول الحويجة المتفرع مـن الزاب، وبوشر العمل في المشروع عام 1951 وقسمت أراضيـه إلى وحدات استثمارية مساحـة كل منها (70 دونماً)، وزعت على (394) مستثمراً.
غير ان هذا القانون فشل كما فشل غيره من القوانين حيث انه نص على توزيع 45% من الأراضي على غير ممتهني الزراعة في حين ان هناك الاف المزارعين ممن هم أحق من هؤلاء في تملك الأراضي، كما انه الزم المستثمر للأرض بشروط لا يلاءم الواقع الاقتصادي الذي يعيشه المستثمر مثل إنشاء دار سكن ملائم ومخزن للمحاصيل وإسطبل للحيوانات كما ان القانون يقرر طريقة استغلال الأرض وهي (النير والنير)، وكانت هناك لجان هي التي تحدد نوع المحاصيل والمساحات الواجب زراعتها، لذا حملت هذه القوانين أسباب فشلها منذ اللحظة الأولى وبالأخص مع الفساد الإداري وسوء تطبيق هذه القوانين.
من هذه المحاولات يظهر جلياً ان جميع الإجراءات التي حاولت الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي حتى وان كانت في نطاق محدود، كانت فاشلة على العموم وذلك لسيطرة الإقطاعيين على معظم الأراضي التي يراد توزيعها، أو لعدم وجود قنوات الري والبزل في الأراضي المزمع توزيعها، كما ان قلة الخبرة والكفاءة الإدارية في إدارة العملية الزراعية وعدم وجود دراسات واحصاءات دقيقة عن واقع الريف العراقي اجتماعياً واقتصادياً كانت تؤدي إلى هذا الفشل في تطبيق أي عملية إصلاحية في الريف، كما ان هذه المحاولات كانت تجري خارج مناطق نفوذ الإقطاعيين والمتنفذين الكبار من دون المساس بمصالحهم لهذا استمر سوء توزيع الأرض الزراعية واستغلالها.
لذلك يلاحظ في أواخر الخمسينيات أنّ الانتفاضات الفلاحية زادت ضد الإقطاعيين والملاكين الكبار كما حدث في عام 1946 في محافظة الموصل ضد الملاكين من آل الياور، وفي عام 1947 – 1948 قامت انتفاضة فلاحي قرية عربت (التي تقع على وادي نهر تانجرو جنوب السليمانية) ضد الشيخ لطيف محمود البرزنجي الذي فرض حصصاً مضافة على الفلاحين باسم حصة "المرعى" وحصة " الماء " وكلف أخرى مما يرفع حصته من المحصول من عشر إلى ثلث، غير ان الفلاحين امتنعوا عن ذلك وأدى الأمر إلى مصادمات بين الطرفين، انتهت بإجبار الشيخ لطيف على زيادة حصة الفلاحين.
كما قامت حركة أخرى في جنوب العراق في العمارة في منطقة الكبية التي تعود حقوق التصرف فيها إلى الشيخ " سكر النعمة شيـخ آل عيسى من عشيرة بني سعيد "، وكان قد وقع عقداً مع آل فرطوس بعدهم ملتزمين ثانويين للأرض، لذا بدأت حركة آل فرطوس عام 1949 عندما حاولت الحكومة تسجيل الأرض بأسماء الشيوخ الملتزمين الأولين غير ان السلطات الحكومية سحقت هذه الحركة في عام 1950، وقامت بترحيل آل فرطوس إلى المنتفك (ذي قار).
وفي أواخر عام 1951 قامت انتفاضة فلاحي " آل ازيرج " في العمارة فقد طالب (6000 فلاح) بالأرض التي افنوا أعمارهم في إصلاحها وبالقضاء على ما يقاسونه من ظلم الإقطاعيين واستغلال اتعابهم، لاسيما وان أراضي لواء العمارة التي يطالبون بها هي أراض حكومية (أميرية) ممنوحة لكبار الإقطاعيين باللزمة، مما اضطر الإقطاعي إلى طلب النجدة من الحكومة التي أذهلها اتساع الانتفاضة فأرسلت فوجاً من الشرطة المسلحين لمحاصرة الفلاحين، ولما لم يتنازل الفلاحون عن حقوقهم التي طالبوا بها هاجمت قوات الشرطة قرى الفلاحين الذين صمدوا متحدين أسلحة الشرطة، وظلت قوات الشرطة تهاجم الفلاحين الذين نفد ما لديهم من العتاد، فاحتلت الشرطة القرى واعتقلت العشرات من الفلاحين وحكمت المحاكم عليهم بالأحكام الثقيلة.
ولم تقف هذه الانتفاضات الفلاحية في حدود معينة وإنما كانت تشمل جميع أراضي العراق وقراه في الشمال والوسط والجنوب، حيث حدثت انتفاضة عارمة في قرى الشامية في نيسان 1954 وكانت تعبر عن سخط الفلاحين على الحكومة وأوضاعهم المعاشية السيئة وطالبوا بتوزيع الأراضي عليهم، وقد كانت هذه الانتفاضة واسعة إلى حد ان ساندهم الطلاب والعمال والكسبة وعمت منطقة الشامية جميعها، غير ان السلطات ألقت القبض على الفلاحين والطلاب وقمعت هذه الانتفاضة بالقوة.
ولعل السبب الأقوى الذي دفع الأهالي إلى مساندة هذه الانتفاضة هو الإحساس بمدى الظلم الواقع على الفلاحين جراء عدم تنفيذ الملاك لـ " مرسوم قسمة الحاصلات لسنة 1954 " حيث ان هؤلاء الملاك والمتنفذين كانوا يحصلون على ثلثي الحاصل بينما الثلث الآخر يترك للفلاح لتسديد ديونـه والذي لا يفي.
وبعد ان ازداد تدهور أوضاع الريف العراقي والأوضاع المعيشية السيئة للفلاحين تصاعدت انتفاضاتهم ومنها انتفاضة فلاحي القادسية " في الرميثة " حيث حدث اشتباك بين الفلاحين والشرطة التي كانت تقاتل عوضاً عن الإقطاعيين تحت مظلة القانون والحفاظ على الأمـن والنظام، حيث تدخلت الشرطة لمصلحة الشيخ " خوام العبد العباس والشيخ سوادي الحسون " اللذين طلبا مساعدة الشرطة لترحيل بني عارض بسبب رفضهم تأدية حصة من الحاصل عوضاً عن أثمان المضخات، فقامت الشرطة بضرب الفلاحين وتدمير أكواخهم وسقط نتيجة الاشتباك مع الشرطة قتلى وجرحى، وفي حزيران 1958 قامت الشرطة بإلقاء القبض على سراكيل " العفالجة والبو نايل والمزاريج " مما أدى إلى توتر الوضع وامتداد الانتفاضة إلى المناطق المجاورة لمحافظة القادسية.
التطورات الاقتصادية و الاجتماعية في العراق للفترة 1958 – 1968