منذر جميل حافظ..عراب الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية

منذر جميل حافظ..عراب الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية

عبد العليم البناء

تتواصل متوالية الخسارات لمبدعي العراق الأفذاذ، فيرحل الموسيقار الأصيل منذر جميل حافظ في الخامس عشر من حزيران 2022 بعد معاناة طويلة مع مرض مرض عضال ألم به خلال السنوات الماضية عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاماً، دون أن تمتد له يد الرعاية الرسمية كما هو معتاد إلا ماندر، لتفقد شجرة الإبداع العراقي أحد أغصانها الذهبية المزدانة بالإبداع الرصين الذي تميز به كبار مبدعي العراق الذين يشكل رحيلهم خسارة فادحة لايمكن تعويضها أبداً..

والمتتبع لسيرة هذا الراحل الجليل الذي ولد في بغداد في 1/7/ 1931، يجد أنه نشأ وترعرع في بيت بغدادي وأسرة ثقافية وفنية تجذرت في أفرادها الروح الوطنية التي تلاقت فيها كل الآيدلوجيات من دون صراع أو كراهية، فشقيقته هي الناشطة اليسارية والأديبة سافرة جميل حافظ، وشقيقه المحامي زكي جميل حافظ الذي يعد شاهداً على مجريات الأحداث العراقية لمايزيد على النصف قرن، وأخته التشكيلية الإنطباعية البارزة حياة جميل حافظ، فضلاً عنه (منذر جميل حافظ) اليساري الموسيقي ومستشار الفرقة السمفونية العراقية والرئيس الأسبق للمجمع العربي للموسيقي، والذي يعد هو وأشقاؤه - كما يذكر المقربون من العائلة - من الحالمين البغداديين على وجه الخصوص والعراقيين على نحو عام، ممن توفروا على جناحي: الموهبة الإبداعية والقيم الفكرية القائمة على الحداثة والانتصار للإنسان وأفكار العدالة الاجتماعية ونصرة المظلومين والمسحوقين، برغم ولادتهم في بيت أرستقراطي وأسرة موسورة الحال.

ونظراً لحبه وشغفه بالموسيقى اتجه منذر جميل حافظ لدراسة الموسيقى في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتعلم العزف على آلة الكمان والفيولا على يد الأستاذ ساندو البو، وأنهى دراسته عام 1963، ثم التحق بدراسة آلة الفيولا والعلوم الموسيقية النظرية في كلية (ترنتي) في لندن عام 1967، كما درس الرسم والتصميم والديكور خلال وجوده في لندن وبرع في رسم اللوحات وفق سياقات المدرسة الانطباعية، وهو عضو مؤسس للفرقة السمفونية الوطنية العراقية عام 1959، واستمر في العزف فيها بشكل متواصل على آلة الفيولا حتى عام 2008، وأحد أعضاء رباعي بغداد الوتري 1962-1971، وعضو اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى 1974-2002، وعضو نقابة الفنانين العراقيين، ومدرس مادة التذوق الموسيقي ونظريات الموسيقى في مدرسة الموسيقى والباليه ومعهد الدراسات الموسيقية 1968 – 2005، وعمل مديراً للفرقة السمفونية الوطنية العراقية 1996-1999، والمشرف الفني لها 2000-2008، ومدير المجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربية) 1975-2007.

وحسب المتخصصين انعكس في نتاج الراحل الموسيقي، كمؤلف بارز، حضور الهوية الثقافية الوطنية عبر النهل من التراث النغمي العراقي وتقديمه بشكل أوركسترالي، فهو يعد رائداً في كتابة الأعمال الموسيقية وتقديمها من خلال الفرقة السيمفونية وفق مبدأ خلق موسيقى وطنية وجعله سياقاً ثابتاً، والاستفادة من الإتصال بالموروث النغمي العربي والشرقي كما في مؤلفة له، مبنية على موشح(لما بدى يتثنى) وقدم في مؤتمر المجمع العربي للموسيقى 1974، و(إيحاءات شرقية) 1978، و(كونشيرتو العود والأوركسترا الوتري) الذي قدمته الفرقة السيمفونية العراقية عام 1978، و(فلسطين)، الذي جاء وفق شكل حر (لا قالب محدداً له). وترسخ هذا المبدأ في العديد من الأعمال التي كتبها على امتداد أربعة عقود ومنها:سيريناد(4) للوتريات / بغداد 1972، وسيريناد شواطىء دجلة / بغداد 1974، وإيحاءات شرقية / البصرة 1977، وكونشيرتو العود والوتريات / بغداد 1978، وخيط المغزل (مقطوعة للوتريات)/ بغداد 1980، وإفتتاحية (5) للحياة / 1994، وإفتتاحية البناء / 1995، ودعاء للسلام/ 1999، وعراقيات/ 2000.

لم يتوقف عطاء الراحل عند هذه الحدود ليحقق طموحه في إشاعة وتكريس الثقافة الموسيقية الرصينة، فأعد وقدم مع باسم حنا بطرس برنامج (مع الموسيقى العالمية)، وهو أول برنامج ثقافي من نوعه في تلفزيون العراق، خصصت له مدة ساعة كاملة كل أسبوع، وكان يعرض في بغداد، وينتقل للعرض تباعاً إلى البصرة ومن ثم إلى الموصل، يوم كان البث لا يغطي كل البلاد، فتأسست محطات في مناطق مهمة جغرافياً وبشرياً، وكان على صلة بمعظم من شكلوا الثقافة العراقية المعاصرة في النصف الثاني من القرن الماضي، ومنهم التشكيلي الرائد حافظ الدروبي، وعلاقته هذه لم تأت من باب الصداقة بل جاءت عن طريق دراسته الرسم والتصميم والديكور خلال وجوده في لندن لدراسة الموسيقى، وبرع في رسم اللوحات وفق سياقات المدرسة الانطباعية، ثم اتجه إلى اساليب المدرسة السريالية والتجريدية وشارك في العديد من معارض الفنون التشكيلية، فهو رسام انطباعي عنى بالحياة المحلية البغدادية والعراقية على نحو عام. ولعب أيضاً أحد الأدوار المهمة في فيلم (الملك غازي) للمخرج القدير محمد شكري جميل عام 1993.

وصدر له العديد من البحوث والدراسات الموسيقية التي قدمت في ندوات ومؤتمرات المجمع العربي للموسيقى، ومنها: (المجمع العربي للموسيقى تاريخ وانجازات)، من اعداد ه بالاشتراك هشام شرف عام 2007.،كما صدر له عن دار الشؤون الثقافية العامة كتاب (محتوى الألحان لغاية عصر التنوير)عام 2021، ويضم 11 فصلاً.

رحم الله تعالى فقيد الثقافة والموسيقى العراقية الرصينة وعراب الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، الذي تتلمذت على يديه أجيال موسيقية نهلت من فنه وعلمه وثقافته وتواضعه الذي لايليق إلا بالكبار من أمثاله..