طلال سلمان يرحل في زمن عربي عاصف

طلال سلمان يرحل في زمن عربي عاصف

راسم المدهون

كان ذلك بعد هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967 وانطلاقة العمليات الفدائية الفلسطينية ضد إسرائيل على نطاق واسع ويومي، وبعد "معركة الكرامة" الشهيرة في 21 مارس/ آذار 1968، حين قرأت استطلاعًا صحافيًا عن فصائل الثورة الفلسطينية في الأردن كان عنوانه الرئيسي: "مع فتح والفدائيين". كان تحقيقًا سياسيًا ميدانيًا كتبه طلال سلمان، وقرأته في "مجلة الصياد" اللبنانية في ذروة النهوض التاريخي للثورة الفلسطينية بعد هزيمة 1967.

وهو التحقيق الصحافي الأول الذي أقرأه للكاتب اللبناني الذي عرفت في ما بعد أنه كان ناشطًا سياسيًا في "حركة القوميين العرب" في لبنان، بل وتولى رئاسة مجلة الحركة "الحرية".

ولد طلال سلمان في قرية شمسطار ـ البقاع عام 1938، وعاش حياته للصحافة، لكنه عرف بدايات الشهرة خلال عمله في مجلة "الصياد" اللبنانية لصاحبها سعيد فريحة، وبدأت شهرته الكبرى مع إطلاقه جريدة "السفير" اللبنانية الشهيرة. كانت "السفير" قد أعلنت منذ البداية، ومن خلال شعارها الشهير "صوت الذين لا صوت لهم"، انتماءها إلى قضايا اجتماعية أقرب لليسار اللبناني، وفي الوقت ذاته التزمت بقضايا التحرر الوطني العربية، وفي المقدمة منها قضية فلسطين، والكفاح الوطني الفلسطيني.

صدرت "السفير" عام 1974، أي قبل شهور قليلة من بدايات الحرب اللبنانية، فاختارت أن تقف إلى جانب معسكر الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، فحملت توجهات سياسية مؤيدة للقوى اليسارية والقومية العربية، من خلال تغطياتها الإخبارية، كما من خلال تعليقاتها، وما تقدمه من تحليلات سياسية. ولعل أشهر ما جذب قراء الصحافة اليومية لـ"السفير" مساهمات الراحل ناجي العلي الكاريكاتيرية، التي دفعت الشاعر محمود درويش لأن يقول جملته: "كاريكاتير ناجي العلي جعلنا نعتاد على قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة"، وتلك في تقديري ميزة تحسب للراحل طلال سلمان، الذي فتح صفحات الجريدة لفن ناجي العلي، الذي نجح في تقديم فن كاريكاتيري متقدم فنيًا، ويحمل في الوقت ذاته نظرات نقدية عميقة لقضايا العرب وهمومهم.

طلال سلمان صاحب "السفير" ورئيس تحريرها، كما كانت تحمل الجريدة في تعريفها عن نفسها، هو من فتح صفحاتها الثقافية خصوصًا أمام كتاب من مختلف التوجهات، وكان لافتًا أن يكتب الشاعر عباس بيضون بعد ساعات من رحيل سلمان أن الراحل كان يقف في أحيان كثيرة على الطرف النقيض لمقالات وآراء بيضون، ولكنه لم يمنع يومًا إحدى تلك المقالات، بل ترك هذا الشاعر يكتب ما يشاء احترامًا للرأي الآخر، وإدراكًا أيضًا لقيمة ما يكتبه، وما منحه من حجم ودور لـ"السفير"، خصوصًا في صفحاتها الثقافية.

كل من عاش مرحلة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبيروت يتذكر بالتأكيد الدور الذي لعبته "السفير" خلال أيام حصار بيروت، من خلال الصور التي حرصت الجريدة على نشرها لمشاهد القصف والتدمير الهمجي الإسرائيلي، وكذلك أشكال الصمود اللبناني ـ الفلسطيني، حتى إذا عاد الراحل ناجي العلي من صيدا عادت "السفير" لاحتضان رسومه الكاريكاتيرية التي كان أولها رسم فيه فتاة بعينين جميلتين سقطت منهما الدموع، وكتب تحتها: عين الحلوة.

أتذكر أن الشاعر اللبناني بول شاوول قال لي مرة، وكان يعمل في جريدة أخرى، أنه هاتف طلال سلمان، الذي سأله كالعادة عن أحواله، فقال له الراحل طلال: أغلق سماعة الهاتف وتعال إلى مكانك السابق في "السفير"، وحين فعل شاوول ذلك فوجىء بخبر على الصفحة الأولى من سفير اليوم التالي بعنوان: "السفير" تستعيد بول شاوول، ويسرد عناوين مؤلفاته.

هو طلال سلمان اللبناني، العربي، والفلسطيني الناصع الذي وقف في ذروة الحملات العنصرية على الفلسطينيين ليكتب مقالته الشهيرة "الفلسطينيون جوهرة الشرق الأوسط... صنعوا نهضة لبنان"، وفيه جردة واسعة لأغلب الفعاليات والشخصيات الثقافة والعلمية والأكاديمية والاقتصادية الفلسطينية، إضافة إلى الكفاءات الفنية، بمن فيها بعض الذين لم نكن نعرف انتسابهم لفلسطين من قبل. ذلك موقف عكس وعي وانتماء الراحل الكبير للقضية الفلسطينية، باعتبارها حقًا وليس شعارًا قضية العرب الكبرى التي تمثل باستمرارها عجز العرب كأمة ودول، وتختصر حاجات شعوبها إلى التنمية وحق المواطنة والديمقراطية والحداثة، لأن غياب كل تلك القيم هو الذي جعل مشروعًا خياليًا يهدف لاستبدال شعب بشعب آخر يتم اختراعه أمرًا واقعًا ممكن الحدوث والتحقق.

رحل طلال سلمان، ولكن بعد أن رحلت قبله "السفير" التي لم تعد تستطيع أن تتنفس في مناخ لبناني وعربي يعاكسها ويعاكس كل ما هو نظيف ويهدف إلى التقدم والتطور والارتقاء، وهو زمن عكس في الوقت ذاته عزوفًا واسعًا للناس عن قراءة ومتابعة الصحف اليومية، وبالذات الصحف الورقية المطبوعة التي عاشت مع فورة الإنترنت توجهًا شبه شامل للشاشة الضوئية المفتوحة بالكامل أمام الجميع، وهي الأزمة التي تسببت في توقف كثير من الصحف غير "السفير"، لعل أشهرها "الحياة الدولية"، التي عاشت لأكثر من ثلاثة عقود وهي في قمة هرم الصحافة العربية.

رحيل طلال سلمان اليوم يأتي في زمن عربي لعلّ عاصف صفته الأبرز الفوضى والتكلس، وجمود التطوّر، وغزو الأفكار المتطرفة، بما حملته للعرب في مختلف بلدانهم من متاعب ومآس خلقت مزيدًا من الصعوبات.

· عن موقع الضفة الثالثة