د. خالد قاسم الجريان
فجعت العربية وتراثها العريق بوفاة علم من أعلام التحقيق اللغوي والأدبي وعلم القراءات، هو الأستاذ الدكتور حاتم صالح الضامن - رحمه الله - الذي وافته المنية صبيحة يوم الخميس 4/4/1434هـ الموافق 14/2/2013م.ويعد الدكتور حاتم - رحمه الله- من أبرز جيل الرواد في فن تحقيق المخطوطات..
عرفت الأستاذ الدكتور حاتم الضامن رحمه الله عام 1416ه وذلك عندما اقتنيت كتاب منثور الفوائد لأبي البركات الأنباري الذي حققه الدكتور حاتم فألفيته كتابًا رائعًا وفريدًا في بابه، يومها لم أكن أعرف الدكتور حاتم ولم أكن أفقه فن تحقيق المخطوطات العربية التراثية، إلا أنني عشقت الكتاب ورحت أقلبه، وأقتني غيره.
وبعد اتصالي بالشيخ الأديب أحمد المبارك رحمه الله تعلقت نفسي بالكتب، وكانت مكتبته العامرة تزخر بأمات الكتب الشرعية والعربية والفكرية والفلسفية والعلمية والثقافية، وكنت كلما زرته في بيته دخلت المكتبة ورحت أفتش عن الكتب التي حققها أستاذنا الدكتور حاتم -رحمه الله- حتى جمعت عددًا كبيرًا منها، ورحت أقلبها وأقرأ فيها، وكان اسم الدكتور حاتم -رحمه الله –
لا يسقط من ذاكرتي.
وفي عام 1420ه التحقت ببرنامج الماجستير بجامعة الملك فيصل تخصص لغويات، وشاء الله أن أدرس مادة (مناهج تحقيق النصوص) أي تحقيق المخطوطات، فتذكرت منهج أستاذنا الدكتور حاتم في تحقيقه لكتب التراث.
كانت نفسي تتطلع إلى أن تكون رسالتي للماجستير تحقيق مخطوط لأحد علماء الأحساء النحويين، ووفقني الله للحصول على نسخة من مخطوط (صرف العناية في كشف الكفاية) للإمام العلامة البيتوشي، وكنت أبحث عن نسخ أخرى لهذا المخطوط، فدلني أحد زملائي على مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي حيث المخطوطات والنوادر والثقافة وكتب التراث، فاتصلت بالمركز وحولني السكرتير على خبير المخطوطات بالمركز فإذا هو والدنا الأستاذ الدكتور حاتم –رحمه الله-.
من ذلك الاتصال بدأت علاقتي بالدكتور حاتم الذي تحدثت معه طويلاً فألفيته عالمًا جليلاً بالمخطوطات ونسخها وأماكن وجودها، والمطبوع المحقق منها، والناشر لها واسم المحقق أيضًا، ولمَّا سألته عن المخطوط الذي أزمع تحقيقه أخبرني أن المركز لديه نسخة من مخطوط (صرف العناية)، وبعد أسبوعين من مهاتفة أستاذنا شاء الله أن تكون زوجتي – وهي إحدى قريباتي – من المقيمين السعوديين في دولة الإمارات.
فكنت فرحًا جدًا بأني سألتقي الدكتور حاتم عندما أزور أرحامي، وفعلاً كانت أول زيارة للإمارات بعد عقدي على زوجتي زيارتي للمركز ولقائي بالدكتور حاتم، وكنت أزوره في مكتبه وأمكث طويلاً لديه فكنت أستمتع بردوده على زواره أو المتصلين به فعرفت أنَّه علامة عصره في علم المخطوطات.
كان –رحمه الله- عذب الحديث مؤنسًا في حواره، يغدق عليك بمعلومات عن المخطوطات وعلمها وعلمائها وفنونها ومحقيقها، وكان يتألم على ما آلت إليه المخطوطات العربية والإسلامية، وكيف عبثت بها أيدي المتسلقين على التراث، كما كان يتألم كثيرًا على ما آلت إليه مخطوطات بلاد الرافدين بلاد العراق أرض آبائه وأجداده أرض العلم والعلماء أرض التراث والحضارة، وما فعله الأعداد للهيمنة على مقدراتها العلمية والطبيعية، كذلك كان يتألم على المخطوطات الإسلامية وماذا فعل بها المستشرقون الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، فتصدى -رحمه الله- لبعض تلك المخطوطات وحاول إعادة تحقيقها من جديد، وبيَّن الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها أولئك المحققون الغربيون.
كان ألمه واضحًا في حديثه فقد كانت العبرة تخنقه، والدمعة تتأرجح بين أشفار عينيه، من ألم الغربة، وما حل ببلده العراق، وكنت أحاول تضميد جراحه فأقول له: أنا ابنك وأنا رهن إشارتك، فكان يرد بألم: (بارك الله فيك يا ابني خالد ونفع بك لكن من يعوضني في أرضي وبلادي)، وكان يذيل مقدمات تحقيقاته بعبارات الألم والحزن فيقول في أحدها: (وقد قمت بتحقيق الكتاب وأنا في غربتي بعيدًا عن الوطن الذي شَرِّدَ أبناءَه، وقَتَلَ علماءَه، وهَجِّرَ أطباءَه، ولم يكتفِ بذلك، بل احتضن أعداءَه، وولَّاهم أرضَهُ وسماءَه) أقول: الدكتور حاتم هنا لا يعني وطنه العراق بل يعني الذين احتلوا أرضه هم الذين فعلوا به ما فعلوا، ثم يدعو لبلده فيقول: (اللهم احفظ العراق وأهله، وانصره على السَّفلةِ الأوغاد، الذين استباحوا البلاد، وسبوا العباد، إنَّك لا تخلف الميعاد).
استمرت العلاقة وتوطدت أواصرها حتى دعوته إلى منزل عمي في أكثر من مناسبة، وكان يقول لي: (يا ابني لا أحب أن أستجيب لأحد حتى لا أثقل عليهم، فلم أستجب لأحد من قبلك لكني أحببتك فاستجبت لك) كانت تلك وسامًا أتقلده ووشاحًا أتشح به.
كنت أذهب منذ الصباح الباكر لمركز جمعة الماجد لألتقيه وأستمتع بحديثه، فكان يحدثني عن كتبه وكتب التراث، وقد أهداني من كتبه أكثرها، وكان يرشدني إلى أهم الكتب النحوية واللغوية والصرفية وأفضل الطبعات وأجود المحققين لها.
لم أزره يومًا إلا وأخرج بمعلومات وقصص ونوادر وطرائف وحكايات ومواقف التي لم تخطر على بال، وكنت أستمتع بها أيَّما استمتاع، بل كنت أدون العديد منها في مذكراتي، وكان –رحمه الله- يحكي لي عن طفولته مع والديه وأخوته وأخواته وأصدقائه، تحدث لي عن شبابه ودراسته وحرصه على العلم والمعرفة وعن عشقه لكتب التراث وعن لقاءاته بأهل العلم والمعرفة وخاصة أهل التراث وأهل التحقيق، حكى لي عن كيف تعرف على المخطوطات، وكيف استطاع وهو في السنة الثالثة من الماجستير أن يقارن بين النسخ حتى تفوق على أساتذته، وقد اتصل أستاذنا –رحمه الله تعالى- بأبرز أعلام التحقيق منهم: الأستاذ عبدالسلام هارون، والشيخ عبدالخالق عضيمه، والشيخ محمود شاكر، وصديقه الحميم القريب إلى قلبه الشيخ حمد الجاسر علامة الجزيرة الذي أثنى ثناء عاطرًا على تحقيقات أستاذنا الدكتور حاتم وكان يدعوه للكتابة في مجلته (مجلة العرب)، فاستجاب لدعوته فأثرى بكتاباته وأبحاثه المجلة، أقول: ومن أولئك العلماء الذين كانت بينه وبينهم صلة وتواصل الدكتور محمود الطناحي، والأستاذ عبدالفتاح راتب النفاخ، والأستاذ الدكتور عبدالصبور شاهين، والدكتور صالح العايد، والأستاذ الدكتور عبدالرحمن العثيمين، والأستاذ الدكتور أحمد الضبيب، والأستاذ الدكتور عياد الثبيتي، والأستاذ الدكتور سليمان العايد، والأستاذ الدكتور عبدالعزيز التويجري رحمه الله، والأستاذ الدكتور مازن المبارك، والأستاذ الدكتور محمد خير البقاعي، والأستاذ الدكتور عوض القوزي، والأستاذ الدكتور عبدالعزيز المانع، والأستاذ الدكتور يحي الساعاتي، والأستاذ الدكتور عبدالرحمن العارف، والأستاذ الدكتور عادل سليمان، ومن الأعلام العراقيين الذين تواصل معهم أستاذنا وكانت بينه وبينهم ذكريات وجلسات ومحاورات علمية وثقافية واجتماعية الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي، والأستاذ الدكتور أحمد مطلوب، والأستاذ الدكتورة خديجة الحديثي، والأستاذ الدكتور فاضل السامرائي، والأستاذ الدكتور حسام النعيمي، والأستاذ الدكتور يحيى الجبوري، والأستاذ الدكتور عدنان سلمان، والأستاذ الدكتور جاسم الدرويش، وقائمة طويلة عريضة يصعب ذكرها وحصرها تواصل معهم علميًا وأكاديميًا، وعن طريقه تعرفت على أبرز أولئك الأعلام.
كان وفيًّا لبلده العراق وفيًّا لأمته العربية والإسلامية، فقد اتسم –رحمه الله - بالإباء وعزة النفس فبعد أن نأت به الديار وغادر العراق وحلَّ ضيفًا عزيزًا على الإمارات، أخذ يعمل في مركز جمعة الماجد وفي كلية الدراسات الإسلامية والعربية بمبلغ من المال لا يوافي عمله وجهده وعلى الرغم من ذلك كان راضيًا محتسبًا الأجر والثواب، وعندما علمت إحدى الدول الأوربية عنه عرضت عليه مبلغًا يصل إلى ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه، وعلى الرغم من حاجته للمال إلا أن عزة النفس أبت عليه أن يتقاضى مالاً من أناس أعداء للأمة وقد شاركوا في قتل وتشريد أهل بلده، في حين رأى ضعاف النفوس كيف تهافتوا على المال.
وكان له فضل عليَّ حيث عرفني بأبرز تلاميذه من أهل العلم والفضل ممن قدموا للإمارات للتدريس بكلياتها ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر الأخ العزيز الأستاذ الدكتور يوسف العيساوي، والأخ الدكتور هادي الشجيري، والأستاذ الدكتور حازم سعيد، والأخ الأستاذ الدكتور عبدالكريم مدلج، والأستاذ الدكتور عطية الوهيبي، والدكتور عمار الددو، والأستاذ الدكتور رسول، والأخت العزيزة الدكتور نوال سلطان، وعدد كبير لقيتهم فاستفدت من فضلهم وعلمهم.
وكان -رحمه الله- يحثني على الاتصال بالعلماء وأهل الفضل وباقتناء الكتب، بل كان يحملَّني في كل مرة أزوره من الكتب ما تنوء بحمله الجمال يهديها لزملائه وأحبابه وأخوانه من الأساتذة وطلبة العلم في السعودية.
وكنت في بعض زياراتي للإمارات تتوافق مع مناسبات دينية مثل عيد الفطر أو عيد الأضحى، فكان يصحبني معه –رحمه الله- لزيارة أهل العلم والفضل من أمثال رجل الأعمال السيد سيف الغرير، ومعالي الشيخ السيد جمعة الماجد، وغيرهما كثير، وحدِّث عن تلك اللقاءات من الحكايات والذكريات الماتعة. كان – رحمه الله – حنونًا عطوفًا محبًا لي فكان يسأل عني وعن أهل بيتي وأبنائي ووالدتي، وكان يحثني على برها، ويقول لي: (اطلب من والدتكم الدعاء لي ففيها الخير والبركة)، وكنت إذا عزمت على العودة إلى السعودية عانقني وودعني وأوصاني بعدم السرعة، وعدم الاستعجال، والانتباه للطريق، وأن أتصل به في حالة وصولي ليلاً أو نهارًا، وإذا تأخرتُ عنه لظروف منها التعب أو الإرهاق اتصل هو بي يعاتبني عتاب الأب المحب لابنه الذي أقلقه سفره.. كم كنت أبًا كريمًا رحيمًا يا سيدي.
كان -رحمه الله- متواضعًا رحب الصدر يشاورني في بعض شؤونه العلمية والأسرية الخاصة، وهذا من ثقته بي رغم أني ابن من أبائه، اتسم – رحمه الله – بدماثة الخلق، وسلامة الصدر، والهدوء والأدب، والخلق والحياء والحب والوفاء، ونقاء السريرة، ورقة القلب.
كان يحكي لي بعض المواقف العلمية المؤلمة التي حدثت له مع بعض المتسلقين على العلم والتحقيق، فكان يعاني من عداوتهم ومن تعنتهم الشيء الكثير وكان يقول لي: (هؤلاء ليسوا بعلماء ولم يؤدبهم العلم)، وكان يروي لي من القصص الطريفة المؤلمة عن بعض المخطوطات كما حدث له مع كتاب (التهذيب بمحكم الترتيب)، وكان أكثر ما يؤلمه سراق التراث الذين سطوا على تراثه، وسرقوا كتبه دون أن يشيروا إلى عمله بل سلخوا الكثير من كتبه سلخًا ونسبوها لأنفسهم جورًا وبغيًا وعدوانًا.. فأين حقوق المؤلف أو المحقق في بلاد الحقوق والعلم والمعرفة والملكية الفكرية كما يزعمون، يقول –رحمه الله- في مقدمة أحد كتبه متألمًا: (واليوم ونحن نعيش في عصر طغى فيه السطو الفكري، والقرصنة العلمية، نرى أسماء أُناس قد وُضعت دون حياءٍ ولا وازع من دين على أغلفة كتب ليست من عملهم، ولا يمتون إليها بصلة، واتخذت هذه الدور - التي تنشر هذه الكتب – واجهات إسلامية مزيَّفة، وأسماء الصحابة والتابعين، والإسلام والصحابة والتابعون منهم براء). كان –رحمه الله- غيورًا على تراث أمته العربية والإسلامية فقد تصدى لأولئك المستشرقين الذين عبثوا بكتب التراث فزوروا وتلاعبوا بالنصوص وخاصة كتب القراءات القرآنية فكانت غيرته تمثلت في الرد على المستشرقين أو بيان أخطائهم أو بما قام به من نشر لكتب القراءات، فقد أعاد للقراءات القرآنية علمها ومكانتها فعرف القرَّاء والمهتمون بطريقة القراءة والنطق بها، وقد نفع الله بها.
ــ عضو مجمع اللغة العربية في مكة المكرمة.