سيد درويش.. ذاكرة شخصية

سيد درويش.. ذاكرة شخصية

محمود عبد الشكور

يدهشنى فى ذكرى مرور 100 عام على وفاة سيد درويش، أن ما أتذكره عنه يرتبط تقريبا بكل مراحل حياتى، وكأنه صار جزءا من سيرتى، مثلما صار جزءا من سيرة الوطن.

أول ما أتذكره أن كتاب "سيد درويش"، الصادر فى سلسلة "أعلام العرب"، لمؤلفه العلامة الرائد د. محمود الحفنى، كان من أوائل الكتب التى قرأتها، فى بداية المرحلة الإعدادية، بل لعله كان من الكتب المفضلة عند أبى أيضا، فقد كنت أراه يطالع بعض فصوله، ويعود إلى كلمات أغنيات مكتوبة فيه، منها مثلا أغنية "دنجى دنجى"، من كلمات بديع خيرى.

ما زلت أتذكر حتى الآن حكايات من الكتاب، منها ما حكاه نجيب الريحانى عن واقعة غضب فيها سيد درويش، وثار وانفعل، فلما سمع الشيخ سيد صوت عصفور كناريا بالصدفة، راح هذا الغضب، وكأنك ألقيت ماء على نيران مشتعلة، وكان هذا التحول موضع تندر الريحانى الدائم، فيقول للشيخ سيد إذا ثار وغضب: "طيب وأجيبلك منين دلوقتى عصفور كناريا يا شيخ سيد؟".

ظلت فى ذاكرتى طويلا من الكتاب صور تمثل الشيخ سيد، سواء فى زيه الأزهرى، أو فى بدلته الإفرنجية، مع بعض الوثائق، مثل عقود الأغنيات والأسطوانات، ولفتنى جدا أنه كان يوقع بلقب "الشيخ" سيد درويش.

لم أنسَ أبدا صورة فى نهاية الكتاب لقبر سيد درويش، وقد نقشوا عليه هذين البيتين: "يا زائرى لا تنسنى / من دعوة لى صالحة/ وارفع يديك إلى السما / واقرأ لروحى الفاتحة".

فى سن مراهقتى، أطل سيد درويش من جديد، ولكن هذه المرة بعرض فيلم روائى طويل يحمل اسمه، من إنتاج 1966، وإخراج أحمد بدرخان، وبطولة كرم مطاوع وهند رستم، وكان أجمل ما فيه بالنسبة لى أن أشاهد ما قرأته من تفاصيل فى كتاب الحفنى، وأن أستمع إلى الأغنيات، وخصوصا أن بعضها كان بصوت الطفل هانى شاكر، وبعضها كان بصوت إسماعيل شبانة، شقيق عبدالحليم حافظ، مطربنا المفضل.

عرفت فيما بعد أن الفيلم أثار غضب أسرة سيد درويش، لأنه عرض بصراحة لمغامراته النسائية، وفى القلب منها علاقته الشهيرة مع جليلة، كما عرض الفيلم لتعاطى درويش للمخدرات، ورجح موته بجرعة كوكايين زائدة، وكلها معالجات جريئة دراميا، تقدم سيرة شخصية عظيمة، بدون صفات ملائكية كما تعودنا، ويكفى أن نقارن هذه الجرأة بفيلم سابق لأحمد بدرخان نفسه، عرض فى ديسمبر 1952، بعنوان "مصطفى كامل"، عن سيرة الزعيم العظيم، ومن بطولة "الأستاذ أنور أحمد"، هكذا ذكروا اسمه على أحد الأفيشات، وكان ذلك دوره الأول والأخير.

مصطفى كامل فى الفيلم ملاك وشهيد الوطنية، وحتى قصة حبه رومانسية وطاهرة، وحبيبته اسمها "نبيلة"، وقصة الفيلم كتبها "المجاهد الكبير" فتحى رضوان.

عاد سيد درويش فى نهاية حقبة السبعينيات، عندما غيروا النشيد الوطنى، من "والله زمان يا سلاحى"، إلى "بلادى بلادى"، وما زلت أتذكر استقبال الرئيس السادات بعد عودته من توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وظهور عبدالوهاب ببدلة عسكرية، حاملا رتبة اللواء، وهو يقود الفرقة الموسيقية، التى تقدم نشيد "بلادى بلادى"، بتوزيع جديد لم يعجبنى، فقد كان بطيئا عن الأصل، الذى كنا نردده بحماس فى حصة الموسيقى.

قرب نهاية المرحلة الثانوية، أطل درويش مرة أخرى، ولكن هذه المرة من خلال حفيده إيمان البحر درويش، الذى قدم فى حفلة تليفزيونية لا تنسى، أغنية "مخسوبكو انداس صبح محتاس"، فانتشرت بصورة خارقة، وهى نفس الأغنية التى استقبلتنى من ريكوردر عالى الصوت، وقت وصولى إلى محطة باب الحديد، لألتحق بكلية الإعلام، وقد ظللت لفترة أظن أنها أغنية يونانية مترجمة!

فى الجامعة بدأت فى الاستماع الممنهج لتراث سيد درويش، سواء عبر بعض شرائط الكاسيت، أو من خلال مشاهدة حلقات برنامج "الموسيقى العربية"، وبرنامج "ألحان زمان"، أو حتى عبر زملاء اشتركوا فى كورال الجامعة، وفتنت على نحو خاص بمونولوج "والله تستاهل يا قلبى"، الذى يهزنى من الأعماق حتى اليوم.

شغفت بالرجل هامشا ومتنا، حياة وموسيقى، فشلا ونجاحا. وفكرت كثيرا فى مفارقة وفاته وهو فى سن الشباب، وفى سنوات عطائه القصيرة كملحن.

هل كان يفضل، لو خيروه، حياة طويلة فارغة؟ أم حياة قصيرة ثرية تخلده؟

يروى عن درويش أنه لم يكن فى عيش رغد يكافئ شهرته، ويحكى رفيق عمره الشاعر يونس القاضى واقعة عجيبة، فيقول: "قابلت الشيخ سيد درويش فى حارة العمرى بشارع محمد على، فقلت لنفسى آخد فلوس منه، لأننى كنت فى ظرف عائلى، ومشينا نتكلم لحد دكان سمعان، وحب يقعد ع القهوة، قلت له: معاك فلوس؟ قاللى: لأ، قلت له: ومين سمعك؟، فقال: أفتشك، فتش مالقاش معايا حاجة، وكان كل اللى ماشى بيشاور علينا ويقولوا: "ده الشيخ يونس، وده الشيخ سيد"، قلت للشيخ سيد: وبعدين، ده احنا ما نسواش تعريفة! فشاور لنا واحد وكان بيسلم علينا، فندهله الشيخ سيد درويش وقال له: إنت عارفنى؟ قال له: أيوة إنت الشيخ سيد درويش، وده الشيخ يونس القاضى، فقال له الشيخ سيد: معاكش قرش صاغ سلف؟ الراجل اندهش، وفهم إنه بيهزر وياه، وخد بعضه وجرى، قلت له: تعالى نقعد على القهوة اللى أنا باقعد عليها، أجيبلك كل حاجة ويبقالهم".. "ومشينا للباب البحرى لحديقة الأزبكية، وقلت له إيه رأيك لو عملنا دور عن حالتنا اللى احنا فيها؟! وقلت له: "ضيعت مستقبل حياتى"، وكنت أقول الشطرة وهوه يلحنها، وهكذا، واحنا بنلف حوالين حديقة الأزبكية، وخلصنا الأغنية، وذهبت إلى منزلى، وفى عام 1923 ما لقيناش حد يغنيها، فغناها سيد درويش بصوته، وخلدت"..

اختار درويش الخلود، فكان له ما أراد.

· عن صحيفة الشروق