عادل الهاشمي
صحفي راحل
الحديث عن سيد درويش لا يكاد ينتهى إلا ويبدأ من جديد، فإن الجو الذى خلقه سيد درويش بموسيقاه أثر بعمق فى وجدان الناس واستمر أثره لعشرات السنين ولا زالت موسيقاه تحدث نفس الأثر كلما سمعت ولا يمل المرء من تكرار سماعها إذ أنها تميزت تميزا فريدا فى الأصالة وحسن التعبير.
الحقيقة هى أن فن سيد درويش جزء من تراث أمة تعتز بمبدعيها كما تعتز بأصالتها، وهو جزء من كفاح شعب متصل من أجل آمال تحققت وآمال لم تتحقق بعد.
ها نحن نكتب عن سيد درويش بعد مرور أكثر من ثمانين عاما على وفاته، وكاتب هذه السطور قد ولد بعد وفاة سيد درويش، فما الذى يدعونا إلى ذلك؟ سنحاول هنا أن نجيب على هذا السؤال.
كتب كثيرون عن سيد درويش وظهرت أعماله فى الإذاعة والمسرح والسينما والتليفزيون بعد وفاته بسنوات طويلة، وهو هنا يختلف عن غيره من الفنانين الذين استمرت أعمالهم بعد وفاتهم، إذ أن موسيقاه قد ظهرت ثانية بعد فترة طويلة من التوارى زادت على ثلاثين عاما أعقبت وفاته المفاجئة عام 1923، فكيف تعود وبقوة بعد هذا الانقطاع الطويل وتنتشر فى أجيال لم تعاصر سيد درويش ولم تسمع أعماله قط؟
صدر أيضا عن سيد درويش عديد من الكتب والمقالات، ونحاول نحن هنا التركيز على الجوانب الفنية فى أعماله أكثر من أحداث حياته
ترى ما الذى جعل من سيد درويش فنانا على أى حال؟
ولد سيد درويش مرتين، الأولى هى ولادته الجسدية لأمه وأبيه فى الإسكندرية عام 1892، والثانية هى ولادته الفنية لوطنه وأمته فى بالقاهرة عام 1917.
فى أسرة بسيطة فى أحد أحياء الإسكندرية العريقة وهو كوم الدكة ولد الطفل سيد درويش، وحى كوم الدكة هذا حى غريب فى كل شيء، فهو على ربوة عالية فى وسط المدينة تطل على أحياء الوسط الراقى بينما تفصله عن ذلك الوسط حواجز اجتماعية واضحة، كوم الدكة ليس به مدرسة، فقط كتاب صغير لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم بسيط، بينما فى الخارج مدارس أجنبية ومسارح وشركات وجمعيات خيرية دولية نشطة، والحى كما لو كان قرية فى وسط المدينة.
انتمى سيد درويش مباشرة إلى الاثنين معا، حيه الشعبى ومدينته التى جمعت ثقافة أوربا كلها، وهكذا جاء فنه أيضا، أصيلا شعبيا لكنه التف فى ثوب حضارى متقدم للغاية.
لم ينشأ سيد درويش فى أسرة فنية ولم يجد أحدا يشجعه على السير فى اتجاه الفن، بل على العكس لقى العنت والتعنيف والإكراه على عمل أشياء لم يجد فيها إحساسه بذاته، وفى ظل ظروف معيشية غاية فى القسوة كان الفن بالنسبة لمثله ترفا لا يمكن لمسه.
حمل الفتى الصغير مسؤوليات أكثر من طاقته فقد توفى والده وهو فى السابعة، وحملته أسرته على الزواج المبكر فى السادسة عشرة من عمره، واضطرته تلك المسؤوليات إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة الجديدة وهو لم يكمل تعليمه بعد.
فى هذه الظروف كان الفنى الصغير يبحث عن وسيلة للتعبير عما فى نفسه من ضغوط وعن أحلامه فى الحياة، فلم يجد أفضل من الموسيقى، وانجذب بحسه العالى إلى ما سمعه من أساتذته فى المدرسة وبدأ يبحث بنفسه عن مصادر أخرى لهذا الفن فأخذ يتردد على ألأماكن التى تقدم الفنون فى مدينته الهادئة الإسكندرية، المحلى منها والأجنبى، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه.
كان سيد درويش طالبا بالمعهد الدينى بمسجد أبى العباس المرسى الشهير، لكن أصدقاءه وجدوا فى الشيخ الصغير موهبة تستحق الاستماع إليها فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل ذلك فقبل
حاول الشيخ عندئذ العمل بالفن لكنه لم يفلح، ومن أعاجيب القدر أنه عندما استسلم لضغوط الحياة وبدأ يعمل كبنّاء لحساب أحد المقاولين فإذا بهذا العمل نفسه يقوده إلى أبواب الفن، فهاهو المقاول يكتشف فيه موهبة ذات فائدة عظيمة عندما سمعه يغنى وسط العمال وهم يرددون غناءه، لم يكن المقاول فنانا لكنه، تماما كشركات الإنتاج، ومن زاوية مصلحية بحتة، عرض على سيد درويش التفرغ للغناء للعمال بينما يحتفظ بنفس الأجر لما وجد أن غناءه أثناء العمل يزيد من حماس العمال ويجعلهم يعملون بلا كلل أو ملل، فاستراح الشيخ الصغير من عناء العمل وتفرغ للغناء.
فى معظم ما كتب ونشر عن سيد درويش اهتم الكتاب بتأصيل حياته والأحداث التى مر بها أكثر من اهتمامهم بموسيقاه، ويرجع ذلك إلى أن معظم من أرخوا لسيد درويش هم من غير الموسيقيين، أما الشأن الفنى فلم يحظ بالاهتمام الكافى، ونجد فى الفيلم السينمائى الوحيد الذى أنتج عن سيد درويش ضحالة تامة فى القصة والسيناريو والإخراج، بل وإساءة أيضا إلى شخص الفنان المبدع والثائر على الفساد والاستعباد، العاشق للوطن وللحرية، والغيور على فنه والمحترم له، والمجدد بل الباعث لنهضة فنية استمرت لعشرات السنين وألهمت أجيال كثيرة بعده، ورغم أن فنانا مثله يمكن أن نرى له عشرات الأفلام العظيمة دون أن يتكرر فيها مشهد واحد، ويكفيه ما قدمه من أوبريتات رائعة، أنتج بعضها على نفقته الخاصة.
ومما يدعو للدهشة أنه رغم اعتراف الجميع، من أهل الفن ومن خارجه، بفضل سيد درويش إلا أننا لا نرى أيا من أعماله تدرس أو تبحث فى معاهد الموسيقى، ومازالت المناهج الموسيقية الشرقية فى مصر رائدة الفنون تعتمد على التراث التركى فى معظمها.
وربما يقول قائل أن سيد درويش لم يترك ثروة أكاديمية يمكن أن تعين فى صياغة مناهج التعليم والتدريب، لكن الشيخ سيد ترك أكبر ثروة فنية فى تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق، ليس بالكم بل بالكيف، إذ أن كل لحن وكل قطعة تستحق الدراسة والتأمل، وفى أدواره العشرة نجد كل دور من مقام مختلف عرض فيه سيد درويش الكيفية المثلى لمعالجة نغمات هذا المقام.
وفى ألحان رواياته هناك أكثر من 200 لحن لم تتكرر فيها جملة واحدة، وفيها من اختلاف المواقف ما يكفى لعرض كافة حالات الشعور الإنسانى وكيفية التعبير عنها أضاف مقاما موسيقيا جديدا (!) للموسيقى الشرقية أسماه الزنجران أبدع منه أحد أدواره، ولحن منهالأساتذة اللاحقون.
شرع فى تأليف كتاب موسيقى يضم نوت ألحانه، ومع انشغاله بتلك المهمة التاريخية لم ينس أن يكتب مقالاته فى الثقافة الموسيقية للصحف والمجلات يعلم وينور، وكان يوقع بإمضاء خادم الموسيقى سيد درويش.
ولكن لم يمهله القدر أكثر من ست سنوات هى كل عمره الفنى، فقد بدأ فى سن 25 ورحل فى سن 31، ولم يكن ليتسنى له التفرغ لعملية أكاديمية وهو مشغول تماما بإنتاج أعظم ما أنتجته مصر من فن فى تاريخها الطويل.
لقد قام سيد درويش فى مصر بما قام به بيتهوفن فى ألمانيا، حيث صعد الاثنان، كل بموسيقاه، إلى القمة، وفى حين مهد لضهور بيتهوفن عمالقة مثل باخ وهايدن وموتسارت فقد ظهر سيد درويش بانقلاب كبير لم يسبقه تمهيد.
امتد تأثير سيد درويش إلى كامل المنطقة العربية عن طريق من ساروا على نهجه بعد رحيله، وقد عاصر سيد درويش أواخر العصر الرومانسى الأوربى الذى شهد آخر مؤلف عام 1922 وهو جريج النرويجى، وترامت إلى مسامعه أعمال رواد الفن الموسيقى الأوربى حتى فيردى الإيطالى الذى صاغ أوبرا عايدة المصرية لحفل افتتاح قناة السويس عام 1869، وكان رغم أعجابه بأعمالهم لا يقلدهم, وإنما كانت موسيقاه معبرة تماما عن إحساس ومزاج الشعب المصرى الذى حرم طويلا من ممارسة الفنون الراقية بفضل الاستعمار التركى العثمانى الذى احتكر فن الموسيقى وصبغها بصبغته وقصر ممارستها على الطبقات الإقطاعية وأفراد الأسرالمالكة.
وتنوع إنتاج سيد درويش ليشمل أنماطا عديدة من التأليف الموسيقى حاول بها إثبات أن كل شيئ مكتوب يمكن أن يلحن ويغنى مامدامت هناك فكرة ورأى وموقف وإحساس، حتى الأنماط الأقدم استعملها فى أساليب جديدة، وما يهمنا هنا هو أن موسيقى هذا الفنان قد احتوت على قدر عال من القيم الفنية يجعلها جديرة بالدراسة والتحليل والتأصيل والتنميط، ونحن نشعر بينما نستمع إلى ألحانه أننا نستمع إلى أصول وليس إلى فروع أو تقليد.
مجلة (افاق عربية) ملحق إضاءات: ملف عن سيد درويش بمناسبة ذكرى ميلاده 1982.