د.محمود القيعى
كالأشجار التى تموت واقفةً رحل المترجم والمفكر الكبير شوقى جلال بعد حياة حافلة وعطاء زاخر(92 عاما)، ظل منشغلا خلالها حتى أيامه الأخيرة بمصر، متيما بها، حريصا على أن تنهض، وتتبوأ المكانة التى تليق بها.
آمن بالتنوير الحقيقى لا الزائف، فأقبل على ترجمة الكتب العلمية والثقافية مثل "بنية الثورات العلمية" و"تاريخ العلم"، و"فكرة الثقافة" و"الثقافات وقيم التقدم"، و"التنوير الآتى من الشرق" لـ"جى جى كلارك" وسواها من الكتب المؤسسة، وكان يرجو تكريس الثقافة العلمية فى مجتمعه إيمانا منه بأنه لا نهضة حقيقية دون مجتمع يؤمن بالعلم.
كان نموذجا للمثقف العصامى الذى خاض غمار الحياة مستقلا متسلحا بالجسارة الفكرية، والنبل والمثل الأخلاقية، وكان دائم الاعتزاز والفخار بأمّه القروية التى نشأت فى أسرة صوفية النزعة لارتباطها بالطريقة "التيجانية"، وورث عنها النزوع الصوفى، وتعلم منها أن يعيش بفلسفة: "من استغنى فقد اغتنى"، علمته أمُّه التضحية دون أن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكورا، وأن حب الناس ثروة، ويذكر أنها كانت دائمة الدعاء له: " الله يحبب فيك خلقه".
ويحكى عن أبيه أنه كان مسلما متدينا وكانت له صداقات واسعة مع مسلمين ومسيحيين ويهود دون حساسية دينية، ولم يفرض عليه يوما رؤية أو رأيا، فأحب الاجتهاد للوصول إلى المعرفة، وكان على صداقة وطيدة مع باعة الكتب عند سور "الأزبكية"، ويذكر أن سعر الكتاب كان "شلن".
الكتب عنده كانت تمثل له دنيا أخرى تغنيه عن دنيا الناس! فراهن طيلة حياته حتى أيامه الأخيرة على الشباب، وكان ينصحهم – وهو صاحب التجارب الحياتية الكبيرة - بأن ينفتحوا بصدر رحب وبسماحة على كل ما هو مخالف لهم، ومراجعته مع الواقع، ومع الجديد من الفكر بسؤال العلم ماذا عن هذا وذاك.
الباحث عن الحقيقة
وفى تصريحات خاصة لـ "الأهرام"، عبر الشاعر الرائد أحمد عبد المعطى حجازى عن حزنه لرحيل شوقى جلال، واصفا إياه بأنه كان رجلا جادا ذا موقف، ومثقفا حقيقيا، وباحثا عن الحقائق قبل أن يبحث عن أى شيء آخر.
ويضيف حجازي: "كان شوقى جلال شجاعا، وقدم شهادته بقدر كافٍ من الصراحة فى أشياء كثيرة، وفى قضايا متعددة". واختتم حجازى مؤكدا أن شوقى جلال يستحق الكثير من الشكر والثناء جزاء ما قدّمه- بإخلاص- للثقافة المصرية والعربية.
السمح المعطاء
د.مكارم الغمرى المترجمة الشهيرة والعميد الأسبق لكلية الألسن جامعة عين شمس تصف "جلال" فى تصريحاتها لـ "الأهرام" بأنه من أكبر مترجمى مصر والعرب وأكثرهم عطاءً، مشيرة إلى أنه كان ممثلا لنموذج المترجم المتفرغ.
وتضيف د.مكارم أن عطاءه كان غزيرا، وله رؤية فى الحياة ذات عمق فلسفى كبير، لافتة إلى أن اختياراته فى ترجمة الكتب كانت دقيقة جدا وواعية.
وتوضح أنها تعاملت معه سنوات طويلة فى لجنة الترجمة فى المجلس الأعلى للثقافة، مشيرة إلى أنه كان سمحا ذا ثقافة غزيرة متنوعة، متواضعا لأقصى درجة، رحب الصدر، متفهما لاختلافات البشر، متقبلا لها.
من جهته صرح المؤرخ والكاتب الفلسطينى عبدالقادر ياسين لـ "الأهرام" بأن صداقته مع الراحل الكبير تمتد لأكثر من 65 عاما، مشيرا إلى أنه شاهد على أن الرجل منذ شبابه كان حريصا على الحقيقة ولا شيء سواها. ويضيف أن صاحب" الشك الخلاق " احتفظ بعَلاقة طيبة مع الكثيرين ممن اختلف معهم، لافتا إلى أنه كان واسع الأفق سمحا لا يضيق برأي.
ويؤكد ياسين أن شوقى جلال عرف بمواقفه الحميمة مع كل أصدقائه حتى مع من اختلف معهم فكريا وسياسيا، لافتا إلى أن هذا أمر يُحمد له، ويُشكر عليه.
" إبراهيم" حارس العقار الذى كان يسكن فيه الأستاذ شوقى جلال يقول إنه يعرف الراحل الكبير منذ نحو 28 عاما، مشيرا إلى أنه كان محبوبا ومقدّرا من الجميع، وجمع بين الجدية والمرح والبشاشة، ولم يسئ لأحد قط.
· عن الاهرام