عن شوقى جلال

عن شوقى جلال

أحمد عبدالمعطى حجازى

أحدثكم فى هذه المقالة عن رجل زود مصر بثقافة هى فى أشد الحاجة إليها، لأنها فى أشد الحاجة لأن تعرف نفسها، ولأن تعرف غيرها، فهو مترجم ومفكر، يعمل منذ ستين عاما فى الترجمة والتأليف، لا يكف عن العمل، ولا يقنع بما ينتج، بل يواصل ويواصل حتى ترجم حتى الآن أكثر من خمسين كتابا انتقاها انتقاء، ليعرفنا بها ما لم نكن نعرف عن العقل، والعلم، والتقدم والتطور،

والعصر الذى نعيش فيه دون أن نسهم فى حضارته، وعن الآخرين الذين امتلكوا من ثقافة هذا العصر ما لم نمتلكه، لأن معظم مؤسساتنا العلمية والثقافية تعيش فى الغيبوبة التى نعيش فيها، ولا تلقى نظرة على ما حولها لتدرك أن العالم لم يعد هو العالم، وأن السنين تمر على غيرنا بالعشرات والمئات فتنقلهم بعيدا عنا وتطير بهم طيرانا يقطعون به المراحل والمسافات، ونحن نعيش فى زمن لا شمس فيه ولا قمر، فى مجرد مكان لا صباح فيه ولا مساء، لا عمل ولا حلم، ولا أمس ولا غد، فى الوقت الذى استطاع فيه الآخرون أن يطيروا فى السماوات العلى، ويبنوا منازلهم على سطوح الكواكب.

وكما أننا لا نعرف العصر ولا نعرف الغير، فنحن لا نعرف أنفسنا. ماضينا مجهول، وحاضرنا غائم، ولا ندرى من أين جئنا، ولا ندرى إلى أين نسير، وما علينا إلا أن ننظر فى الأعوام المائة، التى تركناها وراءنا لنرى كيف اختلطت فيها السبل وتعثرت الأقدام، نخطو إلى الأمام خطوة، وننكص على أعقابنا، وتشدنا يد يمنة وتشدنا يد يسرة.. وفى مواجهة هذا الواقع وقف شوقى جلال يكشف لنا ما نحن فيه بما ترجم، ويما ألف، لم تكن الترجمة بالنسبة له مجرد مهنة أو حرفة يختار فيها ما يربح منه أكثر، ويعمل فيه أقل، وإنما كان اختياره للكتاب الذى يترجمه تعبيرا عن شعوره العالى بالمسئولية إزاء قومه يحمل لهم ما ينقصم ويزودهم، بما يحتاجون إليه، تفتح له الطريق للعمل كلمات طه حسين التى واجه فيها المصريين بصراحة ولامهم على تقصيرهم، وحثهم على الخروج من غفلتهم ليروا العالم، ويروا أنفسهم فقال: "فى حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزى، كما يصيبنا كثير من الجهل، وما يستتبعه الجهل من الشر... مظهر هذا التقصير المخزى اهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية فى أكثر الآثار العلمية والفنية والأدبية التى تنعم بها الإنسانية الراقية... وما أشد جهلنا لهذه الآثار وغفلتنا عنها".

هكذا كانت الترجمة بالنسبة لشوقى جلال، كانت انتصارا على الجهل والخزى، وكانت سفرا دائما بالفكر والخيال، وكانت حوارا متواصلا مع الثقافات يتعرف عليها، وينقل منها إلى ثقافة أهله.

وهى بهذا الشعور العالى بالمسئولية لا تختلف عن التأليف... ومن هنا هذا التجاوب الواضح بين ما ترجمه وما ألفه... وأمامنا العناوين ننظر فيها فنقرأ مما ألفه: التراث والتاريخ، والحضارة المصرية والعقل الأمريكى يفكر، والفكر العربى وسوسيولوجيا الفشل، والمجتمع المدنى وثقافة الإصلاح، والعولمة: الهوية والمسار.. إلى آخره. وننتقل إلى ما ترجمه فنقرأ: السفر بين الكواكب، وتشكيل العقل الحديث، وبنية الثورة العلمية، والآلة قوة وسلطة، والتكنولوجيا والإنسان، والتراث المسروق ـ وهو كتاب ألفه الباحث الأمريكى جورج جيمس عن الأصول المصرية القديمة التى نشأت منها الفلسفة المنسوبة لليونان، وقد ترجم شوقى هذا الكتاب وأصدره المجلس الأعلى للثقافة.

و"التراث المسروق" ليس الكتاب الوحيد الذى يعرف فيه مؤلفه الأجنبى عنا ما لا نعرفه عن أنفسنا، رغم أنه ينسب لنا ما يستحق أن نفخر به ونتباهى ونحتل فى تاريخ الحضارة الإنسانية المكان الذى تتطلع لاحتلاله الأمم المتقدمة، فمن المنتظر أن نسبق غيرنا للكشف عن هذا التراث المسروق وتقديم الأدلة التى نثبت بها ملكيتنا له، وفى هذا لا نحتاج إلا لنعرف تاريخنا المعرفة التى تمكننا من تقديم هذه الأدلة، لكننا نجهل تاريخنا القديم، بل نحن نتبرأ منه، ونعتبره جاهلية خرجنا منها وقطعنا صلتنا بها، فالمصريون القدماء الذين سمعوا نداء الضمير قبل أن يسمعه غيرهم، والذين عرفوا الكتابة وسجلوا بها أقوالهم وأفعالهم، والذين اكتشفوا العالم الآخر، وهم لايزالون فى هذه الدنيا، والذين شيدوا الأهرام، والذين أنقذوا موسى من الغرق وعلموه ما لم يكن يعلم... هؤلاء ليسوا آباءنا، ونحن لسنا أبناءهم! فلليهود الحق فى أن ينسبوا هذه الحضارة التى يتبرأ منها أهلها لأنفسهم، فلا يتصدى لهم إلا أصحاب الضمائر من العلماء الأجانب أمثال جيمس هنرى برستد الذى أنفق عمره وماله بحثا عن نشأة الضمير الإنسانى، وكيف عرف الإنسان العدل، والرحمة، والاستقامة، والإحسان؟. وكيف ميز بين الفضيلة والرذيلة؟ وبين الخير والشر؟ وقد وجد برستد أن مصر هى الحضارة التى نشأ فيها الضمير وأنصت فيها الإنسان لصوته الذى ناداه فلباه واستجاب له فكتب كتابه الذائع الصيت "فجر الضمير". الذى ترجمه عالم المصريات المصرى سليم حسن، وقال عنه فى مقدمة ترجمته "ولست مبالغا إذا قررت هنا أن خير كتاب أخرج للناس فى هذا العصر من ذلك الطراز هو كتاب "فجر الضمير"، ومثل كتاب برستد كتاب مارتن برنال "أثينا إفريقية سوداء" الذى احتفى به شوقى جلال وقدمه فى كتاب أؤجل الحديث عنه لأكمل حديثى عن شوقى جلال الذى يمر فى هذه الأيام، وهو فى الثانية والتسعين من عمره بأزمة صحية عنيفة يستحق فيها من مصر التى منحها كل ما يملك أن تتحمل عنه مؤسساتها الثقافية ما لا يستطيع هو أن يتحمله ليتغلب على الداء، ويعود لنشاطه الذى لم يتوقف عن القيام به إلا حين أقعده المرض.

******

أكتب هذه المقالة تكملة للمقالة السابقة التى تحدثت فيها عن المترجم المفكر شوقى جلال أؤدى له بقدر ما استطعت بعض حقه علينا، خاصة وهو يمر فى هذه الأيام بأزمة صحية يحتاج فيها لأن نكون بجانبه نرعاه ونشجعه على المقاومة، وندعو مؤسساتنا الثقافية والصحية لأن تتحمل عنه ما لا يستطيع أن يتحمله من نفقات علاجه، وهى فى هذه الأيام نفقات باهظة، لأن النفقات فى هذه الأيام أصبحت باهظة فى كل المطالب والاحتياجات. ولأن شوقى جلال أصبح، وهو فى الثانية والتسعين من عمره معرضا لما يتعرض له الإنسان، وهو فى هذه السن المتقدمة، ولاعتبار آخر يعلو على كل اعتبار، وهو أنه قدم لنا زادا ثقافيا لا يقدر بثمن، وقد أشرت إليه فى المقالة السابقة إشارات سريعة أطلعت بها القارئ العزيز على ما توخاه شوقى جلال فى الأعمال التى ترجمها والأعمال التى ألفها، إذ انتقاها ليدعم بها التيارات العقلانية فى ثقافتنا، وهى فى أشد الحاجة للدعم، وليطلعنا على ماجد فى الثقافة الغربية فى هذه العقود الأخيرة التى بدأت فى اواسط القرن الماضى من تيارات أحدث ومناهج أقدر على الوصول إلى الحقائق العلمية، لأنها تبدأ بالمراجعة والنقد، وتنتهى أيضا بالمراجعة والنقد، ولأنها تنظر إلى الظواهر التى تدرسها والنتائج التى تختبر صحتها من جوانبها المختلفة ومستوياتها المتعددة، ولأنها لا تفصل بين العلم والمجتمع، ولا بين العلم والمشتغل به، ولا بينه وبين من يخاطبهم، وبهذا المنهج الذى تبناه شوقى جلال نظر إلى حاضرنا وماضينا، واختار موضوعاته، وأنجزها، فقدم لنا هذا الزاد الذى لم يكتف فيه بأن يكون عملا يضاف إلى أعمال، وإنما جعله نقلة جديدة تستفيد منها ثقافتنا كلها، كما يستفيد الكائن الحى من تجربة جديدة مؤثرة يخوضها وينتفع بما تعلمه فيها أو من مرحلة من مراحل العمر تزداد بها طاقاته الجسدية والعقلية والعاطفية، بهذا النشاط وبهذا المنهج لم يكن شوقى جلال يخاطب جماعة محدودة من المثقفين، ولم يكن ينتمى لفئة أو لمؤسسة بالذات، وإنما كان يخاطب كل المصريين، وينتمى لكل المصريين مثله مثل كل الذين اسهموا فى ثقافة النهضة المصرية الحديثة ونقلونا بها نقلة شاملة من العصور التى مضت إلى هذا العصر الحديث.

إلا أن شوقى جلال لم يخاطب المصريين وحدهم، وإنما كان يخاطب أيضا من ترجم من أعمالهم، وكان يتحاور معهم، خاصة هؤلاء الذين تحدثوا عنا نحن المصريين، فيما قدموه حديثا مباشرا أو غير مباشر فاقترب من الحق منهم فريق، وابتعد عنه فريق لقصور فى المعرفة، أو لغرض ينأى بصاحبه عن الحق ويدفعه دفعا للوقوع فى الباطل.

ونحن أول المقصرين وأحقهم باللوم، لأننا لا نعرف أنفسنا، كما يجب، ولا نقدم أنفسنا للعالم كما يجب، بل نحن نترك أنفسنا لمن شاء أن يرانا، كما يريد أن يرانا، ويقدم عنا ما يشاء دون أن يفكر، فيما سوف يكون من رود فعلنا، لأننا فى أغلب الأحوال لا نتابع ما يصدر عنا، فلا نبدى فيه رأيا ولا نصحح خطأ، وهو داء عضال مزمن يفتك بنا منذ نسب اليهود لنا فى كتبهم ما نسبوا من خطايا، ثم زادوا فنسبوا لأنفسهم ما قدمناه من أفكار، ورأيناه من رؤى، وشيدناه من صروح.

ولقد يعتقد القارئ أنى أتحدث عن الماضى، فلا يرى ما يدعوه لأن يهتم، لأن الماضى زمن مضى وانقضى، والحقيقة أن الماضى لايزال حاضرا إلى هذه اللحظة، وهل يظن القارئ العزيز أن الأساطير التى بنى بها اليهود مستعمرتهم الحالية التى سموها إسرائيل فى فلسطين السليبة مقطوعة الصلة بالأساطير التى يقولون فيها إنهم هم الذين شيدوا الأهرام وبنوا حضارة المصريين القدماء؟!

وهل يظن القارئ العزيز أن أساطير اليهود ظلت محصورة فيهم مقصورة عليهم؟ لا بالتأكيد، لسبب واضح هو أن كتب اليهود انتقلت إلى أوروبا وأصبحت مصدرا من مصادر الثقافة الغربية هى وأصحابها الذين تفرقوا فى البلاد منذ القرون الميلادية الأولى، وأصبحوا جنسيات مختلفة، ولايزال الذين يعيشون منهم فى أنحاء العالم، وخاصة فى أوروبا وأمريكا أكثر من الذين يعيشون فى الأرض المغتصبة، ونحن نقرأ فيما قاله المؤرخ البريطانى أرنولد توينبى أن اليهود الذين ظلوا يعيشون فى فلسطين فى القرن الثانى الميلادى كانوا جماعة محدودة، وأنهم دخلوا فلسطين أقلية وانتهوا فيها أقلية.

وإذا كان اليهود قد رحلوا إلى فلسطين فى القرن الماضى فرارا من النظم العنصرية التى اضطهدتهم فى ألمانيا وإيطاليا فقد قلدوا من اضطهدوهم فى فلسطين التى اغتصوبها وساعدهم الانجليز فى اغتصابها، وأعلنوا الحرب على أهلها الفلسطينيين وخيروهم بين الهجرة والموت، وبهذه الثقافة التى جمعت بين العنصريين الأوروبيين الذين اعتبروا انفسهم الجنس الأرقى، وبين اليهود الذين زعموا أنهم شعب الله المختار ظهرت النازية، والفاشية، والصهيونية، واكتسح المستعمرون الإنجليز والفرنسيون والإسبان والبرتغاليون والإيطاليون والهولنديون آسيا وإفريقيا والأمريكتين، كما احتل اليهود فلسطين، والبداية تلك الأساطير التى اخترعها اليهود وشاركهم فيها الأوروبيون، ونحن عنها غافلون!.

وأنا فى حديثى هذا عن اليهود الصهيونيين، وعن الأوروبيين العنصريين أتحدث عن هؤلاء وهؤلاء فقط، ولا أعمم على كل الأوروبيين أو كل اليهود، وفى هذا أشارك شوقى جلال، فيما قدمه عن الموقف الذى يقفه من ينكرون سبقنا إلى ما سبقنا إليه ودورنا فى بناء الحضارة الإنسانية، وهو موقف تصدى له العقلاء المنصفون من مختلف الجنسيات والأجناس، فلم يكتفوا بإثبات ما كان معروفا مسلما به من قبل، وإنما اجتهدوا فى البحث والتنقيب والكشف عما كان مخبوءا ومجهولا، وفى الحديث عما وصلوا إليه وإذاعته والتعريف به، ولا تعريف الغير فقط، بل تعريفنا نحن أولا بما كنا نجهله عن أنفسنا..

· عن صحيفة الاهرام