نزيهة الدليمي والأحلام المغدورة

نزيهة الدليمي والأحلام المغدورة

فخري كريم

عاشت نزيهة الدليمي، دون ارادة منها، مرحلة تحولات كبرى، جمعت تناقضات عصر ملتبس، مكفوف، متمرد، تداخلت فيه الآمال والخيبات، وبدا احيانا وهو في صعوده،كما لو انه عصر تصفيات وانتقام!

ما ان هلّ، طاوياً قرن الشك والاكتشافات والأفكار العظيمة، القرن التاسع عشر، حتى تناثرت سنواته صعوداً وانحداراً.

كالغليان كان ينفث أعاصير تهد اليقين في الفكر، والعروش في السياسة والاختراعات في العلم، وفي كل الجهات كانت الأنفاس تتقطع وهي تلاحق غير المألوف. وإذا أغرق القرن الجديد نفسه في مواجهات وحروب وثورات، انسلخ العالم، وتفصد إلى عالمين متناقضين، بينهما المسافة التي تفصل بين اليقين والشك، والأمل والخيبة.

عالم يبشر وآخر يتوعد. بشر ينتشرون مثل نعيم في كل الأصقاع، يتنسمون فضاء جنة موعودة على الارض. تقابلهم ارتال شبحية يستجمعون القوى ويتوعدون بالحريق، كانت سنه ولادة نزيهة الدليمي على خط التماس بين الوعد والتوعد، بين الشك واليقين، بين الأمل والخيبة.

فلم يكن قد مضى وقت طويل على انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، فالحرب الاهلية التي استهدفتها والحصار حولها من كل صوب والاستنزاف بداخلها، كانت كلها قد وهنت وتراخت أطرافها وبدت كما لو انها في حالة استسلام.

لكن شبح المجاعة والأزمات والنذر السوداء كانت تحوم حول العالم، تقارع اليقين بالشك، وتثير هواجس وأمنيات.

ومن فضلات الحرائق ورمادها، وفي زاوية من اقبية البيرة في بافاريا الالمانية، ظهر رجل يزأر ويزمجر ويتهدد العالم حين يمسك بخناقه ويشعل فيه نيران الجحيم. في وقت ما من عام 1923 عام ولادة نزيهة الدليمي الفاصل بين عالمين، كان "عقلاء" تلك المرحلة يستهزئون ويسخرون من صورة مجنون يعربد وهو يحمل صليباً معقوفاً، يقدم مشهداً كوميدياً عرفوا من صحفهم المحلية ان اسمه هتلر اختار حانة بيرة في بافاريا ليخطب فيها ويهدد العالم منها. وكان ان تحققت نبوءته بعد سنوات وجر العالم الى ابشع جريمة في التأريخ الحديث، حيث ضاعت سخرية "العقلاء" في أتون مكابداتهم، واوهامهم وسذاجة تصوراتهم! يومذاك لم تنتبه نزيهة دون شك لأنها كانت تسبح في فضاء الله تنتظر الانبثاق المبهر، إن زئير حانة البيرة وعربدة صاحبها سرعان ما سيلوع حياة شعبها كما ستعيش تالياً مآسيها كما شاء لها الحظ، اذ لم تكن هي حتى بعد ان كبرت وحان حراكها قادرة على ان تتصور وطنها نفسه وقد أصبح أسيراً شبيهاً بذاك المعتوه متفرداً مختلاً مثل هتلر طلع عليه من قمامة أزقة التشرد وحثالات الجريمة.

قد تكون الدكتورة عقدت مقاربة مضنية بين عام ولادتها في 29 ـ 10 ـ 1923 وعام بداية انسلاخ الوطن من العراق في 8 شباط 1963!

الأمل والبشارة

شهد عام 1923 كما علق في ذاكرتها من حوادث التاريخ، صعود الامل والبشارة، بتقدم انساني في الشرق نحو مشارف عدالة لا تضني من انهكهم الكدح والعطاء، تقيهم من عسف الاستغلال وعنت العبودية الطبقية، وتفتح لهم كوة مضيئة في مسيرة البشرية نحو الانعتاق والحرية والمساواة.

كان ذلك الامل يتدفق بقوة المثل والإلهام، من روسيا التي كسر مستعبدوها المستضعفون، رتابة اصطفاف بني البشر في ثنائية منتج القيمة وسارقها، وخرافة ابدية العلاقة بينهما باعتبارها نهاية التاريخ.

والمصادفة السعيدة، التي كان لها ان تسم ولادة نزيهة ايضاً، ويسري في عروقها ويلازم حياتها وهي تتفتح وتنضج، انبثاق بوادر الأمل، في موطنها، كصدى للأمل الآتي من الشرق البعيد، او كإرهاصات لتململات وجدت طريقها الى رهط من المثقفين العراقيين، وهم يتابعون بشغف وقلق، ملامح دولتهم الوليدة، والأجنبي وهو يتمدد في كنفها، ويقدم نفسه، كفاعل خير وواهب نعمة، يستكشف بواطن الأرض ليتدفق منها الذهب الأسود، يبني السكك الحديدية، ويرسي بنيان صناعات ومعامل وموانئ وتجارة. لكن هذا الأجنبي اذ يفعل ذلك، كان يتبدى لهؤلاء المغامرين في دروب الفكر والحرية، مجرد قيّم متسلط مستغل، وتتضح لهم معالم دولتهم التي تكونت على خلاف إرادة أهلها، وقد اصبحت منذ ولادتها اسيرة استعباد جديد.

كانت نوى الحركات والرواد الاوائل للوطنية العراقية في طور التكوين: ـ جماعة الصحيفة ومؤتمر كربلاء والحلقات الماركسية والتجمعات النقابية، وإرهاصات المنظمات المدنية.

وفي ذلك العام، او ما تلاه من أعوام، خرجت أنبل نسائنا وأجرأهن في تحد متفوق على الجهل والتخلف، كاشفات عن إشراقة وجوههن التي لم يخلقها الله الا لتتوحد مع النور والضياء.

لقد اختزل العالم في عام ولادتها، والأعوام التالية، الزمن والمسافات، واخترق ميادين في سائر العلوم، وفي خلايا الدماغ البشري، وفي أعماق النفوس. ورأى الناس معجزات الابتكار والخلق الانساني، وهي تطير، وتخترق الأثير.

وعاش الناس زمن الطائرة، والتلفون، والراديو، والسينما، واستكشاف اسرار النجوم السحيقة البعد، واعماق البحار والمحيطات والغابات، وانحسرت مخاوفهم من الأوبئة التي فتكت بهم طيلة قرون.

في سنوات تكون نزيهة وهي تحبو، كان العراق يزدهر ويزهو بعظمائه.. شعراء أفذاذ، الرصافي والزهاوي والصافي والجواهري، ورهط لا عد له من المبدعين، كتاباً وفنانين وقادة رأي.

كان العراق يومها أسرة واحدة، وإرادة تختزل هموم العراقيين، دون تمييز بين طائفة وعرق ودين وقومية وعقائد وأطياف وتجسد تطلعاتهم، وتعبر عن جسارتهم في المطالبة بالحقوق والأماني المؤجلة.

لكن عام, 1923 لم يرهق ذاكرة نزيهة، او لم يكن ذلك ممكناً لأنها لم تكن بعد قد رأت النور... بما حمل من نذر سوداء لعالمنا المتخيل.

وتوالت، مشاهد التطور والنمو والرخاء وهي تترافق مع الانهيار الاقتصادي ونهب المستعمرات، والانحدار نحو هاوية الحرب.

جيل الأمل والخيبات

وفي رحم التناقض الذي كان يتفجر، اكتملت قامة نزيهة الدليمي، وحسمت خيارها، وتلاقت مع تباشير الامل الذي كان يزداد إشعاعه، ويسطع في سماء العالم، كبديل عن الظلم التاريخي، والاستغلال والقهر، والعبودية، والتمييز بين الشعوب والطبقات والأعراق والأديان والألوان والمذاهب والعوالم، عالم الفقراء والمستغلين ومنهوبي الثروات، وعالم التسيد المطلق للآخر المستغل، عالم الشعوب، وعالم المستعبدين، عالم الحكام وعالم المحكومين.

كانت البشرية تغذ سيرها، وفي حمى العمل لتحويل الأمل إلى حياة معيشة لا يتهددها النكوص او الانهيار، بات كل واحد منا أسير أوهامه المركبة. لم نكن يومذاك نحن جيل الأمل والخيبات نميز بين توق الانسان الى الحرية والسعادة، باعتباره حقيقة مطلقة، والطابع النسبي لحركة التقدم نحو الانعتاق الكامل من كل عبودية، فردية كانت ام مجتمعية طبقية. لقد اصبحت هذه "الحقيقة المطلقة" في وعينا المنغلق، وهماً يلغي إرادتنا، وينفي الشك والجدل في فكرنا، ويأسرنا في وحدانية مغلقة على ما نحن فيه من اغتراب عما يدور حولنا، وما ينبغي أن نكون عليه من دراية وحراك.

كل عالم الأمل، الذي يبشرنا بالجنة على الأرض، ويصبح "العامل الحاسم في تطور البشرية" يتأكل من الداخل، ويتهاوى بنيانه بفعل الإيمان الساذج، والاغتراب عن الحياة، وبفعل الترهل في الفكر والممارسة، والعجز عن رؤية الجديد المتناقض في جوهره، مثل كل الاشياء والمكونات، مثل الطبيعة نفسها التي تتجدد بفعل تناقضاتها.

ولم تكن أوهامنا مجرد أضغاث أحلام، او حلم ليلة صيف. فمعجزات الخلق والابتكار في ذاك العصر خرقت كل ما هو مألوف ومقدس سطحي، فها هو الانسان يطوف في مسار وهمي "حول الكرة الارضية" وها هي آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية تتحرر وها هي الثروات تتراكم في عالم الأغنياء لتصبح الأصفار متاهات عصية على الفهم، وها هي المجاعة والفقر والأوبئة والأمراض الفتاكة تنتشر في مساحات شاسعة في افريقيا وضياع أخرى في العالم.

وتندلق الاختراعات مثل الشلالات... الحاسوب واوتوسترادات المعرفة والاتصالات تزدهر مع اتساع رقعة الأوزون وتفشي الجهل والأمية وازدياد البطالة وإبادة ثروات الطبيعة.

وعلى امتداد العقود الستة من القرن العشرين، تتالت المعجزات والمنجزات، واستمر نهوض البشرية، وتعددت مرافئ الأمل، لتجدد أحلامنا بعالم لا ينحدر ولا ينسلخ عن القيم التي أخذت تسمو بالانسان، خالق القيم كلها، عالم تتسيد فيه الشعوب، وتحدد مصائرها بإرادتها الحرة.

يومها كان العراق يغذّ السير، ويندفع غير مبال بالتضحيات، متحصناً بوحدة ارادة الشعب وبالعزم على تقديم نموذجه الخاص للتحرر والتطور.

أخوة ومصالح مشتركة

لقد شهدت الأربعينيات والخمسينيات، نهضة متوهجة، على كل صعيد. فالحركة الوطنية تكاملت بروافدها، القومية العربية، والكردية، والديموقراطية:

الحزب الوطني الديموقراطي، والاستقلال، والتحرر الوطني، والحزب الشيوعي، والحزب الديموقراطي الكردستاني، وحزب البعث العربي الاشتراكي. وسرعان ما انخرطت كلها في جبهة الاتحاد الوطني، الأداة السياسية الشعبية التي مهدت لنجاح ثورة 14 تموز, 1958 التي قادتها حركة الضباط الأحرار. وعلى جبهة العلم والفن والثقافة، تفتحت تيارات ومدارس، وجماعات، فانطلقت الحداثة الشعرية، واغتنت الحركة التشكيلية بقيم لونية وخطوط تجديدية، ابتكر الرواد الكبار لها طرائق وأساليب، ارتقت بها وحررتها من التجريب والتقليد، وعمقت أصالتها، وشددت ملامح عراقيتها بخطوط وتعويذات التراث وألوان دلالات الحاضر.

وشقت السينما مع "سعيد افندي" رحلة مشاهدة الذات المتوثبة إلى الجديد، وهكذا أضاءت الأنوار، المسارح. واحتشدت الجامعات، التي ضمت جيل الشباب المندفع نحو العلم والعمل الوطني، بأبرز المربين المتنورين التواقين إلى تحصين رجالات المستقبل بالمعرفة العلمية، والثقافة الوطنية التقدمية.

وفي المصانع والموانئ والمرافئ والحقول، نهض العمال والفلاحون تجمعهم الأخوة، والمصالح المشتركة، فالفلاح أخو الفلاح، وحليفهم العامل والمثقف "وردة" على صدورهم! والتحمت صفوف هؤلاء جميعاً مع الجيش لتصنع معاً ثورة 14 تموز. 1958 ومع هذه الثورة بدأ شوط دموي، ظل ينزف حتى اليوم.

الثورة المغدورة

ومعها بدأ الصعود ليمتحن الأمل ثم ليتلاشى، مثل سراب...

فقد كتب على الثورة التي جسدت الأمل واليقين وكادت تبلغ ذراها أن تستدير لتأكل أبناءها، ولتنهك قواها ثم لتهمشها، لكي تدفن في نهاية المطاف في لحظة غدر، تحت أعقاب منتهكي شرف العراق عام 1963.

ثم ترتقي الجريمة المنظمة لتستولي على السلطة وتتوحّد معها، وتصفي ما تبقى من زمن الانفتاح على الأمل، زمن الرومانسية الثورية!

كان الأمل يتدفق مثل ضياء الفجر، يبشرنا بالجنة على الأرض. وفي دروب التألق البشري هذا، كان الناس لا يهابون التضحية، والموت البطولي، لا الانتحار. وكانت تقاليد التآخي والتعاضد والوحدة. تتجذر في وعي الشعوب عبر القارات، فلا يسقط شهيد في أقاصي الأرض إلا وتتداعى الجموع في اصغر جزيرة، او ريف او حاضرة على امتداد العالم لنصرته حتى في العراق الممتحن بولائه للإنسان، وفي كل هذه الاصقاع كانت ترتفع شارة الشهيد ويجري التنديد بقتلته وإسقاطهم لإعلاء شارته. لم يكن احد من جيل الامل، جيل الرومانسية الثورية ذاك، يعرف، وهو يرفع صورة ذلك الشهيد (المجهول) الآتي من ابعد نقطة مجهولة على خارطة العالم، لون بشرته او جنسه او دينه او حزبه... كان يكفي انه شهيد دافع عن مجد بلاده وكرامة شعبه!

كانت أقدس كلمات ذاك العهد الجميل، ما كان يرمز الى معاني السلم والتضامن والإخاء، وحق التحرر والسيادة والانعتاق من كل اشكال الظلم والاستغلال والتمييز. وفي بلاد الرافدين كان التوحد في بوتقة الأمل، يرص صفوف الجميع. كان القومي والبعثي والوطني ورجل الدين والداعية للسلم يسجن بتهمة الشيوعية والأفكار الهدامة.

وفي منافي الوطنيين، كان السكان يحتضنون المنفيين، لا يعرفون او يسألون عن اديانهم او قومياتهم او مذاهبهم او انتماءاتهم او عقائدهم، ان مجرد التعرف على هويتهم كسجناء رأي سياسيين، كافٍ لأقصى عطاء وحماية ورعاية.

هكذا كان أهلنا في لواء الرمادي، في هيت وعنه وراوة، وفي الجنوب والوسط، وفي السجون والمعتقلات، حيث كانت "المواطنة العراقية" هوية الكل وهواهم. في زمن الرومانسية الثورية ذاك، كان التدافع بين الجموع، لتصدر المظاهرات والمواكب والاعتصامات سبيلاً للبطولة والوطنية والإيثار والشهادة وإخلاصاً للذات وللهوية ووقاية للآخرين من الرصاص!

في لحظة غدر تاريخي مريب، بدأ ذلك الزمن، ينسل ويخفت لهيبه، شيئاً فشيئاً.. ثم لينطفئ.

لكنه، ويا للعيب، لم ينطفئ بفعل الصدفة المحضة، بل كان في أساس انطفائه خراب الوعي!

إستحالة النكوص

كان صعباً على نزيهة الدليمي، وهي تشرف على الثمانينات، أن تتحمل نكوصاً، او اعترافاً بانطفاء الامل، ولو الى حين. كان مستحيلا عليها، وهي تسترجع شريط ذكرياتها، ومراحل تكونها ونضوجها وانتمائها، وتحول قناعاتها وما اعتراها من ترددات وشكوك إلى إيمان مطلق، ان تنكفئ او ان تقبل بالهزيمة وان بدت مؤقتة، او بالتراجع بالمعايير التاريخية الخادعة.

في مثل عمرها وقد أنهكتها الغربة، بعد أن نال منها تعب الصراع وتقلبات الحياة، لم تلتفت إلى الماضي إلا لتسري عن نفسها، وتستنسخ منها كل ما هو مضيء، جميل، واعد، يتحرك كما لو كان حياة راهنة متدفقة بالحــيوية والوعد، ولم يكن من سوّيتها أن تلطخ أي صفحـة فيها، كما يفعل الهواة، الذين وضعتهم الصدفـة على طريق هواها.

كيف كان لها ان تمعن الفكر، وقد جففت الشيخوخة والإحساس بالنهاية، وما تبقى من بريق الأمل، في أسباب الخراب الذي حلّ في العراق، والضياع الذي يعيش فيه العالم من حولها؟

أي عبء ثقيل مرهق كان عليها أن تتحمله، وهي ترى مظاهر الانهيار تتراكم، وشظايا اليأس تتناثر مثل الطاعون، تصيب من كانت ترى فيهم، مرافئ، يغفو المتعبون خائري القوى عند ضفافها ليسترجعوا قواهم ثم لينهضوا بعد ذلك من الرماد كالعنقاء!

في تلك اللحظات، التي يختلط فيها خيط اليأس بالأمل، أكرمتها الدنيا بانطفاء ذاكرتها! صارت تتحسس الأشياء والحركات والناس بعينيها وبعاطفتها الجياشة. لقد فقدت ذاكرتها... ونسيت مرة واحدة وإلى الأبد ما يشي بالخراب، وربما تناست هي عن عمد الفسحة التي تفصلها عن كل ما هو سابق للحظتها الراهنة، لتظل صافية الإحساس في أعماقها، مثل من ينكر موت معشوقته، ويظل يصلي في محرابها!

هكذا تخطت نزيهة الدليمي، محنة الإحساس بالانكسار والفشل وتبعثر الامل، ولوعة التنصت من بعيد على نداءات الاستغاثة من سبايا الوحشية التي داهمت وطنها، ودعاءات المستباحة دماؤهم على ايدي المجدفين بالقيم، وهم يقذفون بعضهم بعضاً بالكتب المقدسة، ويتراشقون بالآيات الكريمة، ويحرفون معانيها، لتمنحهم حق القتل على الهوية، وتهجير الناس من مرابعهم، والتفريق بينهم، طوائف ومذاهب وأعراقاً وعشائر ومشارب.

المناضلة

لقد اجتازت نزيهة كل مراحل الحرية التي كانت هاجسها منذ ريعان صباها. فاندفعت مثل ربيع الحياة في دروبها، مناضلة كرست عشقها لمثل الحرية والعدالة والمساواة.

وفي دربها الشاق والمتقطع بحواجز الكراهية، كراهية أنظمة الاستبداد والتخلف المتعاقبة، التقطت قضية المرأة، قضيتها هي ككينونة مأسورة، وحولتها مع مجايليها إلى حركة ظلت تكر وتلتحم مع كل القوى الحية في المجتمع لتنتزع بالمعاناة والتضحيات الواعية، حقها في ان تكون حرة الإرادة، متساوية الحقوق، إحدى ضفتي المجتمع بلا أي قيد او تمييز.

غدت الدليمي وهي في ريعان الشباب مضمخة بعز النضال، وهي شيوعية يقينية الهوى، اجتازت محن الحياة، رمزاً للمرأة وهي تتحدى، لتتحرر وتتساوى، واصبحت في لحظة أمل، اول وزيرة عراقية وعربية تحولت من فرد حر، إلى ظاهرة لتجلي الإرادة الجسورة.

المقاربات المضيئة

كما نحن، لم تتشرب ذاكرة نزيهة الدليمي سوى اللحظات والمقاربات المضيئة التي اقترنت بسنة ولادتها وما تلاها من سنوات وعقود.

وربما يكمن في هذا، سر نشوتها، واستعصائها على فقدان الثقة، وسريان الأمل في روحها، حتى أنها خشعت في لحظة فرادة مضيئة في صلاة مناجاة لمثلها العليا! لم تكن هي وحدها، كلية اليقين بما اعتنقت، فقد كان هذا سوية مجايليها ممن تفتحوا على الأمل دون أن يتقبلوا بأي شكل كان تدنيسه بشكوك رثة، لا تصمد أمام الإيمان المطلق.

وغاب عنها وعنا، نحن جيل التوهج، أن هذا التمنع، والإطلاق، وراحة البال، ما هي إلا أساس الخطيئة التي بددت الأمل نفسه، ولو إلى حين!

هل كان ضياعنا يكمن في لحظة اندفاعتنا الأولى غير الواعية، إلى العالم الحسي، عالم الروح والجسد والافتراضات السعيدة حيث تتلقفنا يد "الداية" التي لا تبشبش في آذاننا بغير كلمات الاحتفاء والتمنيات؟

وما الذي في وسعها أن تفعل غير ذلك، وفي نفسها لا تعي، ونحن ننفصل عن مشيمتنا، سر التناقض المحير الذي يظل مضمراً في أعماقنا البعيدة، بين صرخة الولادة، وفرحة الابتداء الإنساني الغامض!

نزيهة الدليمي عادت الى الوطن، وهو يغرق، وتستباح كراماته ويتيه أبناؤه غرباء بلا أوطان، يهيمون في كل مكان مشردين، كتب عليهم الحرمان والبؤس في زمن يعيث فيه الفساد ويستشري، في كل مسامة من جسد دولتنا.

تعود نزيهة الدليمي إلى لحد منزوٍ غريب بعد ان ظلت تتمنى حتى آخر لحظة، ان تكحل عينيها بمرأى وطنها المستباح.

لعل في غفوتها، وقد عادت راضية مرضية، راحة بال لها، تمضي في سرب الأبدية، دون أن ترى الكلاب تنهش لحمنا وتهرس عظامنا وتعلق دم خيرة أبنائنا، وتلف أشلاءنا بمزق وأسمال الطائفية الرثة... يا للعار...!

جريدة المدى 2012