ابراهيم عبد الغني الدروبي
اذا اردت ان ترى نسخة من اجمل نسخ القرآن الكريم في العالم واروعها خطاً وزخرفة واكبرها حجما، تجدها في مكتبة الشيخ عبد القادر الكيلاني ببغداد.
هي نسخة في مجلدين، طولها حوالي المتر وعرضه 60 سم واذا فتحت احدهما وجدت الصفحات محلاة بالذهب الخالص والمينا اللازوردية. وقد خطت الايات بالمداد الاسود واسماء السور بالذهب والمداد الاحمر والازرق وحول الايات في كل صفحة خمسة اطارات او هوامش متتالية كل منها تفسير للقرآن حسب احد المفسرين بالعربية، واحدها تفسير باللغة الفارسية، وقد خطت بعض التفاسير على شكر مزهريات واوراد مذهبة منمقة وعدد صفحات الكتاب 1800، وورقة حريري ناعم يعرف بالترمة، وهو ورق ثمين كان يستورد من الصين لكتابة المخطوطات القيمة. وقد كانت هذه النسخة الرائعة من القرآن الكريم هدية قدمها حاكم مقاطعة كشمير، السردار عبدالله خان بن الدراني الكوزئي، وتمت كتابته سنة 1796.
وفي هذه المكتبة نسخة اخرى من القرآن الكريم محلاة بالذهب والمينا اللازوردية. ففي كل صفحة منها تتعاقب الاسطر التي خطت باللازورد، وقد خطت في كشمير سنة 1877. وهناك نسخة اخرى من القرآن الكريم كان قد اهداها للحضرة الكيلانية انور باشا رئيس الحكومة العثمانية عندما زار العراق في الحرب العالمية الاولى سنة 1915، وهي نسخة نفيسة نادرة محلاة بالذهب الخالص ومرصع جلدها بالجواهر، يضاهي خطها خط النسخة الرائعة التي اهداها السلطان عبد الحميد الثاني الى المغفور له السيد سلمان نقيب الاشراف عندما كان في الاستانة سنة 1886.
وفضلا عن هذه التحف التي يتمثل فيها الفن الاسلامي على احسنه من حيث الخط، والتنسيق، والزخرفة واستعمال الذهب والمينا والتجليد، فان المكتبة الكيلانية تحوي من المخطوطات القديمة النادرة ما يعود تاريخه الى سبعمائة او ثمانمائة سنة، كالجزء الثاني من كتاب "مجمل اللغة" لابن فارس، خط بخط كوفي، ويعود الى القرن الخامس الهجري، وكتاب "غريب القرآن" للسجستاني وهو مخطوط بخط شامي ومؤرخ بسنة 544 هجرية و"شرح مقامات الحريري" للمسعودي (خط سنة 602 هجرية) وكثير غيرها. وبعض هذه المخطوطات محلى بالزخارف والذهب كالكشاف للزمخشري (مخطوط في سنة 1588 م) وغيره.
لقد مرت على هذه المكتبة ادوار من المصائب ونزلت بها نكبات عديدة وامتدت اليها ايد اثيمة في تاريخها الطويل، وهي ما زالت محافظة على كرامتها تقاوم الايام. فهي المكتبة الوحيدة في بغداد التي مر عليها زمن تقرب من تسعمائة سنة.
ففي القرن الحادي عشر للميلاد (الخامس الهجري) شيد الحافظ قاضي القضاة ببغداد، ابو سعيد المبارك المخرمي، مدرسة بباب الازج شرقي بغداد تخرج منها فيما بعد السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني (1077 – 1165م) وقد نظم السيد الشيخ خزانة كتب في هذه المدرسة جمع فيها مؤلفاته وكتبا كثيرة من انفس الكتب ونوادر المخطوطات، سميت "بالمكتبة القادرية". وقد وجدت مخطوطة في احدى مكتبات مصر لتاريخ الخطيب البغدادي كتب عليها ما نصه: "تملكته بالشراء الشرعي ببغداد وانا الفقير اليه عز شأنه عبد القادر الكيلاني وذلك في سنة 525هـ).
وبعد وفاة الشيخ عبد القادر تولى المكتبة ابنه الشيخ عبد الوهاب واضاف اليها الكثير بما في ذلك كتبا خطها بيده (اذ كان حسن الخط) فضلا عن مؤلفاته.
والمطلع على تاريخ المكتبة بالتفصيل يرى الاجيال المتعاقبة في الاسرة الكيلانية تضيف اليه الكتب وتستنسخها سنة بعد اخرى، غير ان المكتبة ذهبت ضحية الحرق والتمزيق لاول مرة سنة 618 هـجرية، وذلك من قبل وزارة ابن يونس كما روى ذلك المؤرخون كالحافظ الذهبي وابن العمار الحنبلي وغيرهما. إلا ان المكتبة ظهرت من جديد بعد ذلك بخمس عشرة سنة، ورد اليها ما تبقى من الكتب في حيازة افراد الاسرة هنا وهناك واستمرت في الاتساع حتى زمن سقوط بغداد بايدي التتار سنة 656 هجرية، وعندها وقعت فريسة للنهب والتخريب اللذين امتدا ايضا الى المدرسة نفسها كما امتدا الى رباط الشيخ والجامع الذي كان قد شيده اولاده، والذي كان يدعى "ذا القباب السبع المذهبة".
وبعد مرور زمن طويل اعيدت المكتبة مرة اخرى بجهود ذرية الشيخ عبد القادر وهم الذين تولوا ادارة الجامع والمدرسة والمكتبة، وازدحمت هذه بالمطالعين والوراقين والنساخ. غير انها احاقت بها النيران زمن الشاه اسماعيل الصفوي سنة 1508 ولم يعد تكوينها حتى انتزعت بغداد من الصفويين على يدي السلطان سليمان القانوني (سنة 1534)، ثم عادت فدمرت بعد ذلك بحوالي مئة سنة على ايدي الصفويين ايضا، ولكن ما كاد السلطان مراد الرابع يسترجع بغداد منهم لآخر مرة (سنة 1638) حتى ظهرت المكتبة من جديد وبقيت محفوظة منذ ذلك اليوم بتعهدها نقباء بغداد.
ومن الممتع ان من بين الذين ساهموا في الاشراف على المكتبة وتوسيعها سيدة اشتهرت بحبها للعلم منذ حوالي مئة وخمسين سنة، هي عائكة خاتون الكيلاني. فقد شيدت مدرسة باسمها مقابل الجامع الكيلاني، ووقفت عليها كتبا كثيرة كتب على ظهر كل منها (وقفية المدرسة الخاتونية) وختم بختم عاتكة. غير ان هذه المدرسة اندثرت فنقلت كتبها الى المكتبة الكيلانية.
ومن آخر من عني مدى حياته بهذه المكتبة العلامة الكبير السيد عبد الرحمن الكيلاني المتوفي سنة 1926، فقد كان له ولع عجيب بجمع الكتب حديثها وقديمها، مخطوطها ومطبوعها، يتفق عليها الكثير من ماله. وكان احيانا يرسل الخطاطين الى مصر والمغرب ليستنسخوا له الكتب التي يريدها، كما انه كان يستحضر لفافات ورق "الترمة" وغيره من الصين والهند بكميات كبيرة، لتسد حاجة النساخين في بيته. فجمع مكتبة خاصة بقي الان منها ما يربو على 600 مخطوط و2000 مطبوع، جعلها وقفاً على المكتبة القادرية، وقد نسقت اخيرا في غرفتين جميلتين مفتوحتين للمطالعين والزائرين.
وهكذا ترى في المكتبة القادرية استمرارا لذلك التراث العلمي العربي الذي ما انفك نوره يشتد ويخبو، ورغم عاديات الزمن التي حلت بمدينة كانت من اعظم مدن العالم والذي يتسمله اليوم جيل جديد يعبد له اشراقه وانتشاره.
مجلة اهل النفط 1956