عبد الجبار وهبي
لو كل شوك هذا الحاصد من الشوك الذي يخز اليد وحدها إذا لمسته يد، أو يدمي القدم وحسب، وإذا وطئت قدم لو كان هذا الشوك مما تنبته الأرض ويجمعه الرجال والنساء من أطراف المدينة لكان هذا الحاصد واحداً من أولئك الشّواكين الذين تعرفهم: يبيعون لك الشوك لتنعم ببرده أيام الصيف إذا وضعته في شباكك أو تركن إلى دفئه في ليالي الشتاء إذا أحرقته في موقدك.
لكن هذا الشوك لا يخز يدك وحدها إذا لمسته بيدك، ولا يدمي قدمك وحسب إذا وطئه بها، هذا الشوك الذي أريد أن أحدثك عن (حاصد) يخز اليد والعقل معاً ويدمي القدم والقلب على السواء، هذا الشوك لا تنبته الأرض السبخة، ولا يجمعه الناس من أطراف المدينة، إنما تنتجه الروح الشاعرة المتألمة، وينتزعه الفكر النابه من صميم الحياة، ويسطره القلم قصصاً بديعة قوامها التجربة الصادقة وغايتها التوجيه.
يرى القارئ، خلافاً لما جرت عليه العادة كلما صدر كتاب جديد إلى السوق أننا اخترنا الكاتب الكتاب ليكون موضوع هذا الحديث ذلك ان الحديث عن كتاب أدبي يدخل في باب النقد، والنقد فن من الفنون لا يجوز أن يطرقه غير أهله، النقد يستلزم دراسة وتتبعاً، وتجرداً تاماً عن مؤثرات الصداقة والإعجاب الشخصي، ونخشى أن تنقصنا هذه المستلزمات جميعاً، فلا يكون نقدنا أكثر من محاولة للمدح أو القدح تستدرك عند الختام – كما يفعل بعضهم- بملاحظات مبهمة، مرتجلة على الأغلب، في فلسفة الأدب ومدارسه، وقواعد القصة الطويلة والقصيرة، وفي الأسلوب والتركيب الفني.. ونحو ذلك مما يحسن بالأدباء أن يلموا به وتحدثوا عنه.
فإذا كنا لا نستطيع أن نخدم الحقيقة في هذا المضمار فحسبنا لإذن، أن ننفع القارئ في ناحية خاصة من نواحي الموضوع، حسبنا أن نحدثه عن الكاتب بدل الكتاب، عن حاصد الشوك بدل (حاصد الشوك) وفي اعتقادنا إن التعرف على الكاتب شرط متمم من شروط تفهم الآثار الأدبية وتذوقها.
تزوره في بيئة مساء فتجده هناك على عادته، فهو منذ رجوعه من باريس لا يبرح البيت إلا ليذهب إلى (الدائرة) أو يستجيب لدعوة صديق، وفي جانب من جوانب ما يطلق عليه اسم (حديقة) المنزل، حيث نطأ قدماك على سبيل الصدفة (نتفة) أو (نتفتين) من ( الثيل) ويحظى بصرك ببضع شجرات من (الباميا) وشيء من نبات زاحف من فصيلة البطيخ ذات الزهر الأصفر، تجده- صاحبنا عبد الرزاق الشيخ علي – متربعاً فوق كرسي صغير، لا تكاد قوائمه الأربع تستقر به على الأرض الوعرة المنقوعة بالماء، فينهض لاستقبالك، ويحييك تحية حارة مقتضبة، ويخف داخل البيت بخطاه الواسعة ومشيته الإيقاعية ، ليأتيك بشيء مما لا يخلو بيته منه فيقدمه لك ثم يعود إلى كرسيه الصغير، ويلوذ بالصمت ، وفيما أنت تفكر، وتدير بصرك في المكان، وتتطلع إلى النخيل وأشجار السدر الفائقة عبر الطريق، يشغل سمعك خليط أصوات خافتة فيها دوي وأنين وقرقعة، فأن لم يغلبك الخيال عن الاسترسال في تصورات بعيدة، والتفت إلى جهة الصوت على عجل، وجدت حنفية الماء قريبة منك تنفخ في أذنيك ذلك الخليط العجيب نت الأصوات ورذاذ الماء يتنافر من فوهتها الصدئة الفاغرة.
وتحين منك التفاتة اليه، فيرفع نحوك وجهاً قائماً تنساب في نواحيه لأخاديد عميقة معبرة.. وفي الجبين الواسع حيث يلفت نظرك من فوقه شعراً أسود فاحم غزير يخالط الشهب، وحول فم مثقل بشاربين غزيرين، وتحت العينين تفاحتين يظللها حاجبان كثيفات، يرفع نحوك وجهه ويبادلك نظرة زائفة حيناً، حادة عابسة حيناً آخر، فتبادر ، بالسؤال عن حاله وحال أشواكه، فيرخي شفته إرخاء لطيفاً منطلقاً عن سجيته لا تعرف التكلف والمصانعة، وقد قبلها إلى الأسفل – بطريقة خاصة- ويدفع ذقنه إلى الوراء، ويلوح في الهواء ويصغي إليك بعد ذلك وادعاً، مستسلماً، وتشرق ابتسامة عميقة لا تعرف مصدرها لأول وهلة، لكنك لن تلبث حتى تتبين صفاء روح خالص، وطيبة نفس بسيطة ودودة، فتقبل عليه وتتوثق بينكما أواصر المودة وربط الإخاء وأياك أن تنسى حينئذ أن حديثه يجب أن يظل لطيفاً رقيقاً معقولاً بعيداً عن المشاكسة، وإلا فلن تنجو من وخزة حادة جريئة صريحة، تتلقاها في الحال!
وتسأله ثانية عن حاله فيدرك قصدك ويلوح بيديه في الهواء مرة أو مرتين ويقول: الحال؟ ما شاء الله على خير ما يرام! فماذا عسى أن يطلب المرء أو يريد! الأدب عندنا بخير والفكر بخير، والشعب بخير! والعالم كله بخير! ولأي شيء تسأل- حفظك الله؟ كلنا يعرف الحال جيداً، وحدثك بعد هذا أحاديث شتى: عن الطباعة في بغداد وسعر الورق وأنواع الغلاف الذي يصلح للكتب أو لا يصلح، وعن أخلاق الناشرين، وبعض أصحاب الصحب الذين لا يميزون بين حقهم فيما يكتبون وحقهم فيما يكتبه الآخرون! وربما دار الحديث عن ذاك الأديب الذي (يعلس) كتب الأديب بدلاً من قراءتها أو ذاك الكبير المرموق الذي تعجب واستغرب من أن يكون الحاصد (حاصد شوك)! فنقول له:
- عبد الرزاق. وماذا يعني هذا الكبير المرموق؟
فيزور عنك كأنه يتحفز للهجوم ويقلب شفته- على طريقته الخاصة- ويدفع ذقنه إلى الوراء ويلوح بيديه في الهواء ويقول (بلهجة جلفية):
- بوي.. والله بوي! هذا الكبير المرموق لا تعجبه الأشواك. تزعجه الأشواك.. تقلقه الأشواك!
- وماذا كان جوابك له؟
- الجواب مفهوم.. مفهوم! قلت له: أتريد من أزهاراً ورياحين؟ أنا عندي أشواك ولا أصادف في طريقي غير الأشواك!
- وهل اقتنع بقولك هذا الكبير المرموق؟
هنا يلتفت نحوك (حاصد الشوك) يرمقك من تحت حاجبيه المغطين، بنظرة حادة ثابتة.. ويظل هكذا محملقا فيك، مستنكراً هذا السؤال الذي ما كان ينبغي أن يسأل. ويحسن بك، والحال هذه أ، تتدارك الموقف فتقول: طبيعي.. طبعاً! وتبتسم فيبتسم ويلوي عنقه ويقلب شفته ويلوح يديه في الهواء.. وكأنه يقول لك بالإشارة- ماذا لو لم يقتنع هذا الكبير المرموق.. وأمثاله؟! ماذا يكون؟ همج!!
* صحفي رائد تم اعتقاله وتعذيبه عام 1963 ومات في السجن .. المقالة من ملف الناقد الدكتور شجاع العاني نشرت ضمن كتاب " قصة القاص الضحية "