ياسين النصير
لن تضيف قضية اختفاء وموت المناضل عبد الرزاق الشيخ علي القصصي أية ميزة فنية، ولكن قراءة متمعّنة لفكره وفنه القصصي تدل على أن موته على يد جلاوزة نوري السعيد عام 1957 كانت نتيجة حتمية لعمق مواجهته لمشكلات الواقع الاجتماعي والسياسي.
عبد الرزاق الشيخ علي يمتلك ناصية الفن القصصي من خلال رؤية فنية ملتزمة لشرائح المجتمع العراقي الشعبية التي مكّنته من أن يرسم من خلال صور عديدة ومختلفة المستويات لصراع يومي حاد ومباشر مع السلطات.
هذه المعايشة الحسية للواقع ومن ثم الضرورة الفنية لها تكتسب بمرور الوقت حالة فنية عالية النبرة يمكنها أن تمنح حقبة زمنية محدودة هوية الممارسة الحقيقية الفعالة.
ولكن لا يفوتنا التأكيد – كمدخل نقدي لمجموعته عباس أفندي – من القول أن الأرضية الاجتماعية وحدها ليست هي كل فنه القصصي بل في الأرضية الاجتماعية بعد الحرب، والأرضية الاجتماعية المهيأة لأن تلد النقيض الثوري، والأرضية الاجتماعية الممثلة بنماذج تمتلك إحساسا شاملاً بالمأساة وموقفاً أيديولوجيا.
فتشعر وأنت تتابع هذه التلوينات الاجتماعية أن الحرب موجودة سواء كانت بقرائنها المادية المختلفة صوراً وأحاسيس أم بقرائنها النفسية المنعكسة أفعالاً وممارسات تحتويها صغائر الحياة اليومية.
ولهذا فالمدخل الحقيقي لهذه القصص يجب أن يمر عبر بوابات عدة لا يصح مطلقاً أن نضع حدودا بارزة بينها، لأن الواقع المختلف في الخمسينات نتاج مرحلة متشابكة من العلائق الاجتماعية والطبيعة، التي انعكست في رؤى وممارسات قاص مفقه ومناضل إحساسات تتولد وتتسع وتتكاثر في أفق القضية الوطنية، لتصبح منشوراً سريا وبياناً يوزع في الشوارع مظاهرة تطالب بالخبز وبإيقاف نزيف الدم والحرب. وممارسات حسية وعاطفية يومية معايشة.
فعباس أفندي مثلاً لا يريد من الزواج بمعلمة أن يكون عنده بيت يستكين إليه، بل يريد ذلك لكي يقهر دافعه الاجتماعي، فهو محام ومسؤول عن عائلة ولا يمتلك ما يؤهله الاستمرار في المعيش.
إن مجابهة الظروف من خلال نفسية محام برجوازي صغير تتم من خلال الوصول إلى عدم الإحساس بالضائقة، إلا أن ثقل الواقع المعاش فرض صنوفاً من القهر والحرمان.
ففي الوقت الذي يصل إلى تجميع مبلغ الزواج ومن ثم الاستعداد للخطوبة بعد أن عثر على المعلمة، تطلّق أخته من زوجها فيتسبب طلاقها هذا ضائقة أخرى أكثر عنفاً من ضائقته المالية ليجسد بذلك عمق المأساة التي تولدها الحاجة النفسية والاجتماعية لوضع (هادئ) في زمن مأساوي.
والقاص لا يسعى من خلال اقتران مفارقة – زواج وطلاق- أن يصل بإحساس الشخصية إلى موقف المعارضة التامة للواقع الصعب بل أراد أن يصل بالقصة إلى موقف التأزم التام بين عالمه الخارجي وعالمه الداخلي لتجد أن صدى القضية قد ملأ صفحة ممارساته البسيطة وبلغة شاعرية بسيطة.
وقصة عباس أفندي بالتالي ليست سرداً لحالة محام لها بداية ووسط ونهاية بقدر ما هي تشخيصية للصيغة التي يوفرها القاص للقارئ حتى يمتزجا سوية بإحساس وقد خطط لها بدايات مشروعة للإضراب والاجتماع والاحتجاج.
وكعادة كتاب القصة البارزين في الخمسينيات ضمن مجموعة قصة طويلة هي (الأفعوان) لتتجمع فيها منابع فنه القصصي والخطوط العريضة لمواقفه الفكرية.
فنزار عباس مثلاً في (حياة جديدة) يرسم صورة الحياة اليومية المعاشة المتغيرة في كل لحظة والمتجددة أبداً حتى لتحسب أنه في هذه القصة الجميلة يرصد بدقة شعرية وجذابة (الحركة) في هذه الحياة.
فكانت القصة بياناً يحدد هوية قصصه الأخرى ويوضح الأبعاد التي تتحرك عليها شخوصه. فؤاد**** في (الوجه الآخر) جسد هو الآخر رؤياه الكرية لبطل اجتماعي وجد نفسه (مقذوفاً) في وضع مغاير له، فكانت محاولته تغيير هذه الوضع هي سلوكه اليومي المعايش بوعي وجودي وتأثيري، فكان طموحه لأن يعيش علاقة إنسانية – يقهر بها ظروفه الخارجية الخاصة والعامة يولد عنده إحساساً بالقهر والاستمالة.
وعبد الملك نوري هو الآخر يضع في (نشيد الأرض) – القصة الأكثر تماسكاً إحساساًت الإنسان الواعي بمعجل حياته.
فولدت نماذج(عبود) و (الرجل الصغير) وهي لكل نموذج مشخص يمتلك خصائص فنية مميزة مكنت عبد الملك نوري من أن يكون أفضل من استخدام تيار الوعي من الوجهة الاجتماعية المسؤولة.
ويضع عبد الرزاق الشيخ علي في قصة (الأفعوان) الخطوط العريضة لاهتماماته الاجتماعية والفنية.
فالأفعوان هذا الأخطبوط من المشكلات اليومية إلى المشكلات العامة تجسد أبعاده عبر ممارسات حياته مشعبة تولده هذه الحياة من انعكاساته داخل النفس وخارجها بحيث تتأثر بدقة الفنان الواعي لدور الفن القصصي في خلق انطباع عام متكامل يشعر القارئ أن ثقلها الفني يتولد عبر الإحساس بالحياة.
وقصته الأفعوان ليست لحالة اجتماعية عريقة ولدت بفعل تراكمات الأحداث، بل هي انعكاسات لهذه الأوضاع، الشرائح المتولدة داخل بوتقة الواقع تتولد وتتفاعل مع نفسها مختلطة لها إمكانية التأثير عبر الوعي ها.
والقصة بعد ذلك لا تعود بنا الى سردية انفعالية باطنية، بل هي "ديالوج" يمتزج فيه العام بالخاص مكوناً ملامح نموذجية لقطاعات عديدة من الناس.
ولواقع معاش وآخر ممكن أن يحدث. والفن في ذلك كله يتسرب عبر بوابات الإحساس الموقف الكلي المتكون في لحظات غير مفترضة.
وما يجعل قصة الأفعوان مثلاً القصة الجيدة المتماسكة، هو أنها تبني علاقتها بالواقع من خلال اختيار نماذجها الإنسانية التي تولد صورة واحدة للموقف. ففي بداية القصة يرصد القاص الجو الاجتماعي المحيط بحامد من خلال طلبات ابنه وعجزه عن تلبية هذه الطلبات لنقلنا بعد ذلك إلى أصدقاء حامد وإلى معارفه وإلى قطاعات عريضة من المجتمع مكوناً على هذه المسارب العديدة صورة المدينة القابعة تحت ثقل الحرب المقبلة كجزء من شرعية وجودها للثورة.
ويرسم القاص عبر هذه الإمكانيات المتعددة خلجات النفس والأبعاد القصية من التجربة.
ولهذا فأن الأجواء النفسية المتولدة من ذلك ليست شطحات لا واعية ولا هي *** باطنة بل هي ردود وانعكاسات للواقع وبشكل فني جميل ومؤثر.
هذه الطموحات العديدة في القصة تتكاتف كلها في جوقة مأساوية مكونة لحناً جماعياً تتردد في كلماته الراغبة في الخلاص من هذا الواقع والمجيء بواقع آخر لا عذب فيه. والقصة هذه تتوزع في مجموعته كلها. لا بهمها الحضاري ولكن بفنها كذلك، فنجد في بنائه الفني للقصة يبدأ بالمقدمة ثم الذروة فأعلى. وهو كأي قاص اجتماعي خمسيني وجد أن هذا الشكل هو غايته في تحقيق طموحه السياسي فالبناء التقليدي عندما يقترن بقضية اجتماعية يعطي لفن القصة بالانتماء الجماعي فتشعر ان إمكانية التثبيت لنضالات الكتاب آنذاك ثم عبر ممارسات من هذا النوع أقل تقدماً.