رفعة عبد الرزاق محمد
قررت الحكومة العراقية اعتبار يوم الثالث من تشرين الاول يوما وطنيا للعراق أسوة بالعديد من دول العالم التي تحتفي بهذا اليوم الذي يمثل ذكرى إحدى الحوادث الوطنية التي يعتز بها مواطنوها ويجمعون على اتخاذها رمزا وطنيا.
لقد كانت فكرة اليوم الوطني للعراق معروفة لدى النخب العراقية، غير انها في العهد الملكي كانت فكرة قلقة وغير واضحة الملامح، وكان العراقيون يتحدثون عن يوم تتويج الملك فيصل الاول يوم 23 اب 1921 كذكرى يمكن ان تكون عيدا وطنيا، بينما كان آخرون يتخذون من يوم التاسع من شعبان، وهو يوم انطلاق الثورة العربية الكبرى بزعامة الشريف الحسين بن علي ضد السلطات التركية في سنة 1916 على انه يوما وطنيا وقوميا في الوقت نفسه. وفي العهد الجمهوري فقد كانت الدولة تحتفل بيوم الرابع عشر من تموز، وهو يوم قيام ثورة 14 تموز 1958 على انه يوما وطنيا، ثم اتخذت السلطات العراقية في السبعينيات يوم السابع عشر من تموز، وهو يوم قيام إنقلاب 17 تموز 1968. وهي احداث تاريخية جسيمة، لكنها لم تتمتع بمزية الاجماع الشعبي والوطني العام، مما جعل الباحثين عن اليوم الوطني العراقي يرون انه يوم استقلال العراق ودخوله عصبة الامم سنة 1932.
يقول الدكتور فارس كمال نظمي: ان الاستقلال عن بريطانيا والانضمام الى عصبة الأمم في 3 تشرين الأول 1932، فلعله التأريخ الأكثر حياداً والأقل شحناً بعواطف ما دون الدولة وما دون المواطنة، من بين الأحداث الأخرى، ليكون يوماً جامعاً لفكرة الدولة الفتية الخارجة لتوها من شرنقة التبعية والماسكة بأولى حقوق السيادة. هذا اليوم يمكن أن يحقق إختزالاً صفرياً نسبياً لتنازع السرديات، نظراً لرمزيته (نهاية الانتداب البريطاني أي "الاستقلال" حتى وإن كان جزئياً ومتصلاً بقيود مع البريطانيين تنتقص من السيادة آنذاك)، ولعدم ارتباطه بحراك مجتمعي ذي إشكالية مذهبية أو ايديولوجية (كثورة العشرين وثورة 14 تموز)، أو بتنصيب ملكٍ غير عراقي (فيصل الأول)، أو بخيار خلافي يتصل بأزمة تعريف مفهوم "الوطنية" بعد 1920 وبعد 2003.
والكثيرون من مؤرخي العراق الحديث، يميلون الى اعتبار هذا اليوم مناسبا لفكرة اليوم الوطني، لانه للمرة الاولى منذ سقوط الدولة العباسية على يد المغول سنة 1258 ينال العراق استقلاله التام وان يصبح دولة لها كيانها الدولي والاعتباري.. على الشكل التاريخي التالي:
انتهت الحرب العالمية الاولى باندحار الدولة العثمانية التي تحالفت مع المانيا القيصرية، ووقوع ولاياتها العربية تحت احتلال دولتين منتصرتين وهما بريطانيا وفرنسا، وكان العراق بولاياته الثلاث احدى ابرز المناطق التي خلعت من العثمانيين، فقد سقطت بغداد بيد القوات البريطانية في الحادي عشر من آذار 1917 ايذانا بانقضاء العهد العثماني الذي شهد سيطرة الترك العثمانيين على مقدرات العراق نحو اربعة قرون. استمر الاحتلال البريطاني المباشر اقل من خمس سنوات، وفي هذا العهد تأسست عصبة الامم (28 حزيران 1919) التي ارسلت بعثة خاصة الى العراق وسورية وفلسطين لبحث موضوع مستقبل هذه وفقا لمقترحات الرئيس الامريكي ولسن، وقد انهت هذه البعثة اعمالها في 21 تموز 1919 وعادت الى باريس لتقدم تقريرها جاء فيه: مهما كانت الادارة الاجنبية التي يؤتى بها الى سوريا والعراق فانه ينبغي ان لا تأتي ابدا باعتبارها دولة مستعمرة بالمفهوم القديم من كلمة الاستعمار، بل باعتبارها دولة وصية من قبل عصبة الامم، شاعرة شعورا خاصا بأن وديعتها المقدسة تفرض عليها طلب خير الشعبين: السوري والعراقي ورقيهما، فلا تصبح دعاوى الحلفاء قصاصة ورق. واقترحت ان يطبق الانتداب من نوع (أ) على سوريا والعراق على ان يكون لمدة محدودة. ثم انعقد مؤتمر سان ريمو قد في فرنسا في 24 نيسان من عام 1920 وقرر الانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، دون التقيد برغبات العراقيين والسوريين.
بعد فترة قليلة، بدا ان العراقيين مستاؤون من نظام الانتداب الي فرض على بلدهم، ولاسباب اخرى ايضا اندلعت الثورة العراقية الكبرى (ثورة العشرين) مؤدية الى نتائج لم تكن بحسبان المحتلين البريطانيين الذين ادركوا خطورة الحكم العسكري المباشر في العراق. والحقيقة ان الحركة الوطنية التي تأججت مشاعرها في تلك السنة كانت بقيادة نخبة من المثقفين ورجال دين مستنيرين وزعماءعشائريين متحمسين، عرفوا ان الاستقلال سيكون مثلوما لو بقي نظام الانتداب على ماهو عليه، وكان تأليف الوزارة العراقية المؤقتة كأحد السبل التي اتخذتها الدولة المنتدبة لنزع فكرة (خطورة) الانتداب، حتى اذا انتهى مؤتمر القاهرة في اذار 1921الى قرار تأسيس دولة عراقية جديدة بنظام ملكي مقيد بدستور وان يكون الامير فيصل احد انجال شريف الحجاز ملكا لهذه الدولة الجديدة، كان لا بد من جعل الانتداب امرا مخففا وان يتحول اسم المندوب السامي الى سفير بريطانيا في العراق، بدأ الجميع: بريطانيا، البلاط، الحكومة العراقية، الحركة الوطنية بالسعي لتوجيه العراق نحو نيل استقلاله الكامل.. ومن هنا كانت المعاهدات العراقية البريطانية (سنة 1922 وسنة 1926 وسنة 1930) قد واجهت صعوبات كثيرة واستمرت المفاوضات حولها لفترات طويلة، بسب اصرار المفاوض العراقي على ان تكون بنود المعاهدة اوتفاصيلها مؤدية الى الاستقلال الناجز (لنتذكر سقوط بعض الوزارات وانتحار عبد المحسن السعدون وبروز عدد من الاحزاب والحركات السياسية وغيرها بسبب تضارب الآراء حول هذه المعاهدات وذيولها).
أصبحت رغبة العراق في التحرر من المعاهدة التي عقدت بظل الانتداب بالانخراط في عضوية الأمم كانت تشتد بين يوم وآخر مما حمل بريطانيا على الرضوخ لرغبة العراقيين فوضعت معاهدة 30 حزيران 1930 على ان لا توضع موضع التنفيذ الا بعد دخول العراق عصبة الامم لان دخول العراق عضوا في عصبة الامم يحرره من قيود الانتداب بصورة رسمية.
يذكر الاستاذ عبد الرزاق الحسني في كتابه (العراق في دوري الاحتلال والانتداب):
اشعرت الحكومة البريطانية عصبة الامم في عام 1929 بعزمها على ترشيح العراق لعضوية عصبة الامم اذا ما حل عام 1932 قبل ان تتقدم لدرس الاسس التي وضعتها العصبة الاممية لتحرير العراق من نير الانتداب، وتعهدت بتقديم تقرير مفصل عن سير الادارة في العراق بين العامين 1921 و 1932 وقد وضعته فعلا وقدمت نسخة منه الى سكرتارية عصبة الامم في 13 مايس من عام 1931 فكان خير تقرير يوضح اوضاع العراق الاجتماعية والمالية والعمرانية.. الخ، وما ناله من تقدم وازدهار. ويقول احد اعضاء العصبة بخصوص هذا التقرير انه، محاولة دولة حامية تقيم البرهان على كفاءة قطر قد تعهدته بالتدريب للحصول على حق تبوؤ مركز بين الامم وعلى كل فهو يمثل وجهة النظر البريطانية بحق.
ثم قدمت اللجنة المختصة في العصبة تقريرين للواجبات والحقوق للدولتين البريطانية والعراقية، وقد قبل العراق بكل ما جاء في المذكرتين اللتين اعدتهما اللجنة المختصة، واستطاعت الحكومة ان تمررها في البرلمان العراقي، فأعلن مجلس العصبة في الثالث من شهر تشرين الاول من عام 1932 قبول العراق عضوا في عصبة الامم، وكان العراق اول قطر يتحرر من الانتداب ويدخل عصبة الامم التي فرضت الانتداب.