د. بشار فتحي العكيدي
عندما شارفت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء قامت الأوساط الحاكمة في كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وايطاليا بالتباحث في كيفية التصرف تجاه المستعمرات الألمانية في أفريقيا والولايات العربية في الدولة العثمانية على أساس ان تلك الدول هي المنتصرة في الحرب، وهي التي ستضع صورة العالم الجديدة.
وفي أثناء المحادثات التي جرت بصورة سرية بين هذه الدول تقرر ان يكون نظام الانتداب هو النظام الذي تسير عليه الدول المنتصرة في الحرب في حكمها للمناطق الآنفة الذكر. وخلال المداولات التي جرت بين هذه الدول في مؤتمر الصلح في باريس تقرر في سان ريمو يوم 25 نيسان 1920 انتداب بريطانيا على العراق بما في ذلك الموصل.
الانتداب نظام سياسي مؤقت استحدث بعد الحرب العالمية الأولى ونص عليه ميثاق عصبة الأمم عام 1919، ويقصد به وضع بعض البلاد التي تسكنها شعوب لم تكن أهلا لأن تستقل بشؤونها تحت اشراف بعض الدول المتقدمة للنهوض بهذه الشعوب حتى تستطيع أن تتولى زمام أمورها بنفسها، فقسمت المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم الأقاليم التي يرى وضعها تحت نظام الانتداب إلى ثلاثة أنواع بحسب مبلغ رقيها وتقدمها، النوع الأول يعرف بالمجموعة (أ) وهي البلاد التي تكون مهمة الدولة المتقدمة بالنسبة إليها هي الارشاد والتوجيه ومثالها العراق وسوريا وشرق الأردن وفلسطين، والنوع الثاني ويعرف بالمجموعة (ب) وهي الأقاليم المتخلفة ومثالها المستعمرات الألمانية في أفريقيا فتتولى الدولة المنتدبة إدارتها بشرط رعاية مصالح السكان المادية والأدبية وحرياتهم ومعتقداتهم، والنوع الثالث ويعرف بالمجموعة (ج) ويشمل بعض المناطق المتخلفة النائية فتديرها الدولة المنتدبة كجزء من أقليمها. ولما كان الهدف من الانتداب هو إعداد شعوب هذه الأقاليم إلى النهوض تمهيداً لاستقلالها وإدارة شؤونها بنفسها، ألزم قانون العصبة الدولة المنتدبة بتقديم تقرير سنوي لمجلس العصبة تفحصه لجنة الانتدابات الدولية لترى فيه رأيها، وللعصبة إقالة الدولة من الانتداب إذا أخلت بشروط الانتداب، وبعد قيام هيئة الامم المتحدة حلّ نظام الوصاية محل نظام الانتداب.
عندما قام البريطانيون باحتلال العراق كانت ترافق حملاتهم تلك البعثات سياسية وفنية وقانونية وعدد من الاختصاصيين بالشؤون الأساسية الأخرى.
ان ثورة العشرين هي ثمرة لنضال طويل خاضه الشعب العراقي نتيجة لتطور المقاومة الشعبية ضد الاستعمار، ومن أجل الاعتراف للشعب بحق المصير، فقد بدأت الثورة بحوادث لم تكن تتميز في بدايتها عن معظم الانتفاضات العفوية التي حدثت في البلاد في تلك الفترة، وكان للوضع الدولي في نهاية حزيران عام 1920 أثر كبير في تصعيد النضال التحرري للشعب العراقي. وبالإضافة إلى ذلك فقد تحطمت الآمال التي عقدها بعض الوطنيين المخلصين في العراق على حسن نية بريطانيا في انشاء دولة عربية مستقلة في (الشرق الأدنى)، وكان القرار الذي اتخذ في مؤتمر سان ريمو عام 1920 والذي نص على اقتسام العراق وسوريا ولبنان وفلسطين يبين كل من بريطانيا وفرنسا قد كشف عن تنكر المستعمرين للوعود التي قطعوها على أنفسهم للشعب العربي، وعلى ذلك أصبحت الشعارات التي تدعو إلى تعميق النضال ضد الوجود البريطاني تلقى تأييداً متزايداً بين مختلف الفئات الوطنية في العراق.
كانت ثورة العشرين نقطة تحول كبيرة في مسيرة العراق والعراقيين، فهي رغم عدم تكافؤ الطرفين إلا انها استطاعت أن تحقق شيئاً ليس بالقليل، إذ أجبرت هذه الثورة المستعمرين البريطانيين على الايفاء ولو بجزء من وعودهم وعهودهم للعراقيين، فمن النتائج المهمة التي تمخضت عنها الثورة هي تنظيم العلاقات العراقية البريطانية على أسس تعاهدية. ففي 26 تشرين الأول أعلن برسي كوكس عن تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة نقيب أشراف بغداد (عبد الرحمن الكيلاني) حيث أهلّه مركزه الاجتماعي والديني وسمعته لإشغال موقع رئيس الوزراء لحين انتخاب المجلس التأسيسي وإقرار شكل الحكومة التي يبتغيها في المستقبل، وشغل الموظفون البريطانيون مراكز استشارية حيث أصبحوا مستشارين للوزراء العراقيين.
وبذلك وضع الحجر الأساس لقيام الحكومة العراقية، فعلى الرغم من الظروف التي ولدت فيها هذه الحكومة والتي احتوت على هيئة وزارية مؤلفة من رئيس وزراء ووزراء للداخلية والمالية والعدلية والأوقاف والصحة والدفاع والأشغال العمومية والتجارة ووزراء آخرين لهم وزارات خاصة، إلا أنها كانت البذرة الأولى في مسيرة الدولة العراقية الحديثة، وقد عقدت هذه الوزارة أول اجتماع لها في يوم الثلاثاء الموافق 2 تشرين الثاني 1920 برئاسة السيد عبد الرحمن الكيلاني.
مؤتمر القاهرة وقيام الحكم الملكي
فرض نظام الانتداب على العراق بموجب مقررات مؤتمر سان ريمو، آنف الذكر، وفي حزيران عام 1920 تم الاعلان عن عودة برسي كوكس لتطبيق مقترحات بونهام كارتر التي قبلت كأساس تبنى عليه مؤسسات الحكومة المؤقتة حسب شروط الانتداب.
وفي الوقت الذي كانت فيه الأوضاع العراقية غير مستقرة في الداخل على الرغم من تأسيس حكومة مؤقتة قررت بريطانيا نقل ونستون تشرشل من منصب وزير الحربية إلى منصب وزير المستعمرات، فكان أول ما فكر فيه الوزير الجديد هو إنقاص النفقات البريطانية في (الشرق الأوسط) إلى أدنى حد ممكن، وتمهيداً لذلك قررت بريطانيا عقد مؤتمر في القاهرة يحضره ممثلوا بريطانيا في بلدان المشرق ومن ضمنها العراق للمذاكرة في أفضل الطرق لخفض النفقات البريطانية وتعيين مستقبل الحكم في العراق.
وبعد مداولات عديدة ومناقشات حول اختيار الشخص الذي يتولى الحكم في العراق تم ترشيح الأمير فيصل بن الشريف حسين لعرش العراق خلال ذلك المؤتمر الذي عقد في القاهرة برئاسة تشرشل في 12 آذار 1921 والذي حضره عن العراق برسي كوكس وسكرتيرته المس بيل (Bell) ووزير الدفاع جعفر العسكري ووزير المالية ساسون حسقيل والجنرال هالدن (Halden) قائد القوات البريطانية في العراق وعدد من المستشارين البريطانيين.
كانت مسألة تنصيب الأمير فيصل ملك سوريا السابق قد بحثت بين فيصل والحكومة البريطانية قبل انعقاد المؤتمر في آذار 1921، حيث كان فيصل قد وافق على العرض الذي تقدمت به الحكومة البريطانية ليكون ملكاً على العراق، وكانت جميع النقط البارزة قد حسمت بينه وبين الحكومة البريطانية، ولم يبق لمؤتمر القاهرة غير المصادقة على ترشيحه ورسم الخطة التي تتبع في تنصيبه ملكاً على العراق.
أختير فيصل بن الحسين ملكاً لعرش العراق لأن بريطانيا كانت راغبة فيه، وأدركت أنه الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يحقق مبتغاها وأهدافها وأنها تستطيع من خلاله الوصول إلى أهدافها وطموحاتها في العراق، إذ أدركت بريطانيا على ما يبدو أن فيصل عندما يصبح حاكماً على العراق سوف يكون الوحيد من الحكام العرب الذي يمتلك فكرة عن مصاعب العملية التي تواجه إدارة شؤون الحكومة عربية بموجب خطوط غربية.
في 23 آب 1921 تم تتويج فيصل بن الحسين ملكاً على عرش العراق وذلك في ساحة برج الساعة بقشلة بغداد، وقد حضر حفل التتويج ممثلون عن ولاية بغداد والمندوب السامي البريطاني برسي كوكس والجنرال هالدن والكولونيل كورنواليس (Korinwalis) المستشار الخاص بالأمير وعدد من المسؤولين.
وبعد أن تم تتويج فيصل ملكاً وأصبح شكل الحكم واضحاً في العراق بقي أمام المندوب السامي البريطاني مهمة تأليف وزارة جديدة تأخذ على عاتقها نشر المعاهدة العراقية –البريطانية الأولى، وتأليف المجلس التأسيسي، فأبلغ الملك فيصل في 18 أيلول بأن يكلف عبد الرحمن الكيلاني باعادة تاليف الوزارة تكون مهمتها نشر مشروع المعاهدة على النحوالذي قبله الملك والوزارة السابقة، واجراء انتخابات المجلس التاسيسي بطريقة تؤمن مجيء اكثرية يمكن بواسطتها اقرار المعاهدة في المجلس التاسيسي.
يتبين لنا من السبب ان بريطانيا سعت جاهدةً، ومنذ تغلغلها في العراق، لجعله تابعاً لها عن طريق السيطرة على الامكانيات الاقتصادية لهذا البلد، وتسخير هذه الامكانيات لخدمة الأغراض البريطانية، كما كان للنفط الدور الكبير في توجيه سياسة بريطانيا نحو العراق ومحاولة بريطانيا الانفراد بالعراق وعدم ادخال أي شريك لها في خيراته، ولذلك نجدها تبعد منافسيها عن طريق الاتفاقات والمعاهدات التي تعقدها معهم. وكما سبق وأن قدمنا وجدت بريطانيا نهاية الأمر وضرورة احتلال العراق عسكرياً ليكون كل شيء تحت أيديها وأمام أنظارها، وكان لها ذلك بين عامي 1914-1918، وبذلك استطاعت بريطانيا ترسيخ نفوذها في العراق فيما بعد عن طريق توجيه الحكومات العراقية المتعاقبة خلال العهد الملكي وفق استراتيجياتها وخدمة لأهدافها الاستعمارية.
عن رسالة: صراع النفوذ البريطاني – الأمريكي في العراق