عبد الرزاق الحسني
الغاء الانتداب
كان قد مجلس الحلفاء اجتمع في الرابع والعشرين من شهر نيسان سنة 1920 في سان ريمو بفرنسا، وقرر فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان دون أن يستشير ابناء هذه البلدان العربية في هذا الفرض، كما حتمته الفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد عصبة الامم،
ودون ان يتقيد بالوعود التي قطعها البريطانيون والفرنسيون لابناء العروبة في مراسلات الحسين ـ مكماهون ـ في بلاغاتهم وتصريحاتهم المتكررة فكان من الطبيعي ان لا توضع الشروط والالتزامات المفضية الى انهاء الانتداب.
كان العراق البلد الوحيد الذي استنكر فرض الانتداب ليه وقاومه بقوة السلاح. ولما استطاعت بريطانيا ان تقمع المقاومة بالقوة المسلحة، بقي العراقيون يحاربون النظام المذكور في صحفهم واحزابهم وفي خطبهم واحتجاجاتهم، ولما لم تجد بريطانيا مجالا للمماطلة والتسويف، اضطرت الى انهاء انتدابها على النحو الذي سنفصله الآتي، اما الانتدابات المفروضة على سوريا ولبنان وفلسطين فقد انهتها الحرب العالمية الثانية بعد ان قاتل الانكليز القوات الفرنسية في هذين البلدين.
الانتداب في العراق
حتمت الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الامم ـ وقد اثبتنا نصها من قبل ـ على وجوب اعتبار رغبات البلاد التي سيطبق بحقها الانتداب في المقام الاول من انتقاء الدولة المنتدبة، ولكن مجلس الحلفاء الاعلى المنعقد في سان ريمو بفرنسا في الرابع والعشرين من نيسان 1920م فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، دون ان يستشير الشعب العربي في هذه البلدان في انتقاء الدولة المنتدبة، ودون ان يتقيد بالوعود التي قطعتها الحكومتان البريطانية والفرنسية في بلاغهما الصادر في الثامن من تشرين الثاني من عام 1911 والقائل:
((ان الغاية التي ترمي اليها كل من بريطانيا العظمى وفرنسا في خوض غمار الحرب.. هي تحرير الشعوب التي طالما رزحت تحت اعباء استعباد الاتراك تحريرا تاما نهائيا، وتأسيس حكومات وادارات وطنية تستمد سلطتها من رغبة السكان الوطنيين انفسهم ومحض اختيارهم)).
لهذا استنكر العراقيون هذه القرارات حين اذيعت في الخامس من ايار 1920 استنكارا تاما، وحملت عليه صحفهم واوساطهم حملات منكرة، واخذت مقاومتهم لكل هيمنة اجنبية تتخذ شكلا خطيرا حتى ادى الامر بهم الى اعلان ثورتهم الكبرى في الثلاثين من حزيران من هذه السنة، وكبدت البريطانيين (2269) اصابة، بين قتيل وجريح واسير ومفقود، وحملت دافع الضريبة البريطاني اربعين مليونا من الجنيهات الاسترلينية ((ولم تكن هذه الحركة وليدة الشعور المرير بالعداء لبريطانيا، بل كانت ثورة في سبيل الاستقلال المسلوب، وعلى الانتداب المفروض ظلما، اذ وجد الناس انفسهم خاضعين للحكم البريطاني ترافقه مساعدة اسمية بدلا من تمتعهم بالحكم العربي يرافقه شيء من المساعدة البريطانية وقد قالت المس بيل السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد البريطاني في رسالة بعثت بها الى والدها بلندن ((ان كلمة الانتداب لفظة بغيضة غير مألوفة في نظر الجمهور، وان عقد معاهدة تتم المفاوضة عليها في جو حر طليق تكون افضل بكثير منها)).
وقال السير برسي كوكس، الذي اصبح مندوبا ساميا لبريطانيا على العراق:
لقد بلغ الاستياء الذي كانت تقابل به دائما فكرة الانتداب في العراق حدا فائقا حتى ان لفظتي الانتداب والدولة المنتدبة كانتا تعدان تجديفا في نظرهم، فكان من الطبيعي ان يقترح على حكومته البريطانية افراغ الانتداب في قالب معاهدة ترضي العراقيين من جهة ـ ولو بصورة ظاهرة ـ وتقنع عصبة الامم بأن بريطانيا ما تزال عند تعهداتها الانتدابية من جهة اخرى، والى هذا يشير التقرير البريطاني الخاص عن سير الادارة في العراق خلال عشر سنوات بالنص الآتي:
((وفي الوقت عينه اخذت مقاومة الجمهور العراقي لأي نوع من انواع الرقابة الخارجية تتزايد سريعا حتى اصبحت من اعظم المسائل القومية شأنا حينذاك، واثارت هذه المقاومة هيجانا خطيرا هداما في كثير من انحاء البلاد، فرأت حكومة صاحب الجلالة انه مالم تجد واسطة لمجابهته فلا مفر لها من اطال الاحتلال العسكري اطالة غير محدودة: وبعد التروي الدقيق قر قرارها ان من الافضل تحديد موقفها الحقوقي في العراق ليس في شكل انتدابي مألوف كما كان قد اقترح مبدئيا، بل بشكل معاهدة تعقد بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة العراقية على ان ترضي شروطها العصبة، وتقنعها بأن حكومة صاحب الجلالة مازالت في الحقيقة في وضع تستطيع معه القيام بعهودها الانتدابية فلقد كان في نية الحكومة البريطانية ليس احلال معاهدة محل الانتداب، بل بالاحرى تحديد الانتداب وصوغه بشكل معاهدة.
ولعل خير من يوجز هذه الفكرة الاستاذ كوينسي رايت في مقال له نشره في مجلة العلوم السياسية الامريكية الصادرة في تشرين الثاني1926 ص34 وهذا نصه:
لما وجدت بريطانيا ان كلمة الانتداب يكرهها العرب لانها وضعت ايضا على العشائر الهمجية في افريقيا، وعلى الانتداب الفرنسي على سوريا، وبالنسبة للعهود المنقوصة فيما يتعلق بانشاء وحدة عربية ايضا، فقد وجد البريطانيون ان يعترفوا بحكومة فيصل التي بها تنتهي العلاقات الانتدابية.. وبذلك صار لبريطانيا العظمى موقف مهم بحيث كان لها الانتداب على العراق في نظر جمعية الامم، ولا انتداب لها بنظر اهل العراق ـ انتهى ـ
كيفية التحرر من الانتداب؟
ولا بد ان نثبت هنا حقيقة لا مناص من اثباتها، وهي ان استنكار الانتداب البريطاني في العراق لم يقتصر على العراقيين حسب، فقد عارضته بعض الشخصيات البريطانية. عارضته امريكا بعد ان رأت ان الشروط التي وضعها الرئيس ولسن عند اقراره نظرية الرئيس البويري سمطس الخاصة بنظام الانتداب، تختلف اختلافا كبيرا عن النهج الذي اتبعه مجلس الحلفاء الاعلى عند فرضه الانتداب على البلدان التي انسلخت من الامبراطورية العثمانية، فمنحت بريطانيا الشركات الامريكية حصصا في شركة نفط العراق فلم يكن امام حكومتها الا ان تسكت فسكتت. وعارضته بعض الشخصيات البريطانية المرموقة بزعم ان بقاء بريطانيا في العراق يكلف دافع الضريبة البريطاني نفقات لا قبل لها بها فاتهمت الحكومة البريطانية هذه الشخصيات بأن تحت ارض العراق بحيرة هائلة من النفط هي عدة الاسطول البريطاني في البحر، ومعين الشركات البريطانية الذي لا ينفد.
اما بالنسبة الى معارضة العراقيين لنظام الانتداب، وللهيمنة الاجنبية فانها بعد ان اخمدت ثورتهم الجبارة بالنار والحديد، اهتبلت فرصة قضاء الفرنسيين على الدولة الفيصلية التي قامت في الشام، واجلت الملك فيصل عن الاراضي السورية المشمولة بالانتداب الفرنسي، فاستدعت فيصلا الى لندن، وتفاهمت معه على اقامة دولة عربية في العراق تحت رئاسته: وحيث ان العراق وضع تحت انتدابها فهي مستعدة لعقد معاهدة تحل محل الانتداب، وان يسار بحكومته قدما حتى انخراطه في عضوية عصبة الامم فتنتهي علاقاتها الانتدابية في العراق على صورة رسمية ولهذا بحث خاص.ويقول القانوني البارع نيجل داودسن في ص7 من رسالته "العراق او الدولة الجديدة".
((ان الدولة المنتدبة لم تكن تستطيع الوفاء بالالتزامات الانتدابية المترتبة عليها لعصبة الامم، ولا ان تجعل مصالحها المالية في العراق في مأمن مالم يكن في يدها مقدار ما من الهيمنة، وكان السبيل المفضي الى التسوية ان يحول الانتداب الى معاهدة، وهذا ما وقع بالحقيقة فحولت الهيمنة البريطانية المفروضة على دولة العراق، بحكم نصوص الانتداب، الى عدة التزامات بشكل معاهدة قبلها الشريك الاصغر بشكل محالفة.. وبدلا من ان يفرض الفريق القوي قيوده فرضا ويمليها املاء على الفريق الاضعف المتمثل بهيئة حكومة راضخة له، اصبحت القيود التي يقيد بها استقلال العراق التام تشبه على صورة ما قسما من مساومة دائرة بين الدولتين بحيث كان نصيب العراق، والامر من قبيل مبادلة شيء بشيء، ان ينال المساعدة والمعاونة من حليفه الكبير. وفي الوقت نفسه ظل مقدار الهيمنة الذي احتفظت به بريطانيا العظمى تحت شروط المعاهدة كافيا ليمكنها من رعاية المسؤولية الانتدابية المطلوبة لعصبة الامم)).
كانت الحكومة البريطانية قد افرغت انتدابها على العراق في قالب معاهدة مدتها عشرون سنة فاستثقل العراقيون موادها، كما استكثروا مدتها، فلما جرت انتخابات حزب العمال في عام 1922، حملت الصحافة البريطانية حملات شديدة على فداحة الضرائب على البريطانيين، وطالبت بالانسحاب من العراق، مما حمل بريطانيا على ان توقع في الثلاثين من نيسان 1923 بروتوكولا انقصت مدة المعاهدة المذكورة بموجبه من عشرين حجة الى اربع حجج، فلما اوفدت عصبة الامم لجنة الحدود الى العراق في عام 1925 لدرس النزاع الناشب حول عائدية الموصل، وهل تلحق بالعراق كجزء منه لا يقبل التجزئة، ام تلحق بتركية على اساس ان الانكليز لم يحتلها حربا وانما شغلوها شغلا عسكريا، ارتأت اللجنة ان تبقى الولاية المتنازع عليها للعراق بشرط ان يبقى تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 سنة، وهكذا مدد اجل المعاهدة البريطانية المعقودة في عام 1922، والتي كانت مدتها عشرين سنة ثم انزلت هذه المدة الى اربع سنوات، ولكن رغبة العراق في التحرر من هذه المعاهدة بالانخراط في عضوية الامم كانت تشتد بين يوم وآخر مما حمل بريطانيا على الرضوخ لرغبة العراقيين فوضعت معاهدة 30 حزيران 1930 على ان لا توضع موضع التنفيذ الا بعد دخول العراق عصبة الامم لان دخول العراق عضوا في عصبة الامم يحرره من كل قيد انتدابي بصورة رسمية.
م. العرفان لسنة 1955(عدد خاص بالعراق)