نص نادر.. رحلة الى الحلة وكربلاء سنة 1911

نص نادر.. رحلة الى الحلة وكربلاء سنة 1911

عمانوئيل فتح الله عمانوئيل

سافرت في شهر نيسان من هذه السنة (1911)إلى نواحي كربلا والحلة فوقفت في طريقي على بعض الأمور لا تخلو من فوائد أحببت أن أدونها في لغة العرب لكي يطلع عليها من لم يعرف هذه النواحي من عراقنا فأقول:

قبل نحو عشرين سنة كان السفر إلى الحلة من الأمور الشاقة لما يتكلف المسافر من تحميل الأثقال وركوب البغال وإعداد الزاد واتخاذ المبذرقة لتخفره في الطريق من الأعراب المبثوثة في بوادي هذه الأرجاء أما اليوم فتوثير الطريق الواصل بغداد بالحلة وتمهيده آثار في أهل الوطن الغيرة على خير العموم فانشئوا شركات عجلات متعددة سهلت اعظم التسهيل قطع هذه السهول والحزون بدون أن يحصل ما يكدر صفو رحلتهم. اللهم إلا في النادر. والنادر لا يقاس عليه.

ركبت إحدى هذه العجلات مع بعض الأصدقاء وذلك صباحاً في الساعة الحادية عشرة وربع ووصلنا (جسر الخر) نحو الساعة الثانية عشرة إلا ربع الساعة فعبرناه على ظهر العجلات بسهولة عظيمة ولم نفعل كما يفعله ركاب العجلات التي تجري على جسر دجلة في بغداد فان من يريد العبور على جسر بغداد المؤلف من القوارب على الصورة القديمة المعروفة في عهد العباسيين والمبني كان من الخشب، عليه قبل كل شيء أن ينزل عن مركبته ويفرغها من كل ما فيها. ثم يدعو الحوذي أو السائق جماعة من أصحابه ليجروا العجلة جراً بكل رفقٍ بدلاً من الدواب فإذا أنزلوها إلى الجسر دفعوها بكل تحرز عليه خوفاً من أن تنكسر مما تصطدم به من العواثير المتوفرة على ظهر الجسر، وإذا قرب إخراجها من الجسر اجتمع الناس جماعات ليدفعوها إلى حيث يكون الخروج بسلامةٍ. وقد لا يكون الأمر كما توهموه.

وأما جسر الخر فهو جسر من حديد مده الفرنسيون قبل ١٤ سنة فنجحوا ولم يصبه مصيبة إلى يومنا هذا، مع وقع من طغيان دجلة واشتداد جريان ما الخر وازدحام العجلات عليه وكثرة الأثقال التي تجر فوقه. هذا فضلا عن الواردات التي تأتيه. وقد سد مشتراه مرارا عديدة، فقلنا في نفسنا: ليت الحكومة تسعى إلى مد جسر من حديد على دجلة وتحقق هذه الأمنية إلى حيز الوجود تلك الأمنية التي في صدور الكبار والصغار منذ سنوات كثار.

ونحو الساعة الثانية صباحاً وصلنا إلى (المحمودية) فنزلناه لنستريح فيها. وهي قرية فيها منتديات لشرب القهوة وسوق وخان وعدة دور. ويجد فيها المسافر كل ما يحتاج إليه من طعام ومأوى. والظاهر أن هذه القرية حديثة البناء في هذه البقعة من الأرض لأني لم أر لها ذكرا في كتب التاريخ والبلدان التي بحث عن هذه الأرجاء.

قمنا من المحمودية نحو الساعة الثالثة ألا ثلثاً فمررنا بعد قليل على (خان زاد) كذا يلفظ العوام هذا الاسم. والأصح (خان زاد) وهو خان قديم يرتقي بناؤه إلى عدة قرون فلما تهدم في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة (أوائل القرن السابع للميلاد) أصبح مخبأ للصوص وقطاع الطرق فأعاد بناءه عمر باشا سنة ١٠٨٩هـ (١٦٧٨م) وأقام فيه حامية تحمى الحجاج والزوار والمسافرين من أهل العيث والفساد. بيد انه لم يمض نصف قرن على تجديده إلا وعاد اللصوص العماريط إلى هدمه وسكنه.

ونحو الساعة الرابعة ونصف وصلنا إلى (الإسكندرية) وهي اليوم قرية خاملة الذكر فيها عدة قهوات وخان وبساتين ومقبرة وعدة دور. لكننا لم نقف فيها بل سرنا قليلاً ووقفت العجلات في مقبرة الشيخ هرواي (الشيخ الهروي) في الساعة الخامسة إلا ربعاً. وأما الإسكندرية فكانت في سابق العهد مدينة كبيرة بناها الاسكندر ذو القرنين. وهي التي يسميها المؤرخون إسكندرية بابل. وقد بنى الملك المذكور إسكندرية ثانية في العراق على شط دجلة بازاء الجامدة قرب واسط بينهما خمسة عشر فرسخاً. وهي التي تسمى إسكندرية العراق.

ثم أتممنا المسير إلى نحو الساعة السابعة فهبطنا (المسيب) (بضم الميم وتشديد الياء المفتوحة) فنزلنا من العجلات وعبرنا الجسر وهذه القرية مبنية على ضفتي الفرات فيها مساكن كثيرة وجامع فيه منارة ثم محجر صحي ودار برق (تلغرافخانة) إلى غير ذلك. وسميت هذه البليدة باسم المسيب بن نجبة الفزاري وكان من أصحاب علي بن أبى طالب وخيارهم (راجع تاريخ الطبري ٤٩٧: ٢ و ٥٥١) وكان قد قتل يوم الجمعة لخمس بقينا من جمادي الأولى سنة ٦٥هـ (٦ كانون الثاني ٦٨٥م) في وقعة عين الورد. ولكن لا نظن انه دفن في هذا الموطن وإنما نبني له فيه مزار فسمى باسك المزار.

وفي المسيب حركة عظيمة لما يختلف إليها من الناس إذ يرى فيها كل سنة اكثر من مائتي ألف زائر يأتونها من جميع البلاد عن طريق بغداد ليذهبوا إلى كربلاء. إما عدد سكانها المقيمين فيها فيقدر بستة الآلاف نسمة. وكان في نية مدحت باشا أن يجعل ممر السكة الحديدية في المسيب على جسر يركب الفرات.

برحنا المسيب في الساعة السابعة وعشر دقائق ونحو الساعة الحادية عشرة وصلنا إلى (الإمام عون بن عبد الله بن جعفر الطيار) وهو الذي قال عنه في أسد الغابة هو عون بن جعفر بن أبى طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي والده جعفر ذو الجناحين ولم يقل: عون بن عبد الله وإنما عبد الله هو أخوه على أن الذي نقلناه هو ما سمعناه. وهناك ضريح يقال انه ضريحه تظلله قبة معقودة من الحجر القاشاني فوقفنا هنيهة لنريح دوابنا ثم أسرعنا في السير إلى نحو الساعة الواحدة وكنا نمر ببساتين كربلاء فاجتازت عجلاتنا تلك الخمائل إلى أن انتهينا إلى المدينة.

وقد سرنا منظر (كربلا) اعظم سرور، لاسيما (كربلا الجديدة) أو شهر نوفان طرقها منارة كلها تنيرها القناديل والمصابيح ذات الزيت الحجري. والقادم من بغداد إذا كان لم يتعود مشاهدة الطرق الواسعة والجادات العريضة أو إذا كان لم يخرج من مدينته الزوراء يدهش اعظم الدهش عند رويته لأول مرة هذه الشوارع الفسيحة التي تجري فيها الرياح والأهوية جرياً مطلقاً لا حائل دونها كالتعاريج التي ترى في أزقة بغداد واغلب مدن بلادنا العثمانية.

وعند دخولنا المدينة نزلنا ضيفاً على أحد تجار المدينة وهو السيد صالح السيد مهدي الذي كان قد اعد لنا منزلاً نقيم فيه، فاقمنا فيه نهاراً وليلتين. وفي الليلة الأولى خرجنا لمشارفة ما في المدينة مع السيد احمد. وأخذنا نطوف ونجول في الطرق فمررنا على عدة قهوات حسنة الترتيب والتنسيق ورأينا فيها جوامع فيحاء، ومساجد حسناء وتكايا بديعة البناء وفنادق تأوي عدداً عديداً من الغرباء، وقصوراً شاهقة، ودوراً قوراء، وانهاراً جارية، ورياضاً غناء، وأشجاراً غبياء. والخلاصة وجدنا كربلاء من أمهات مدن العراق، إذ أن ثروتها واسعة، وتجارتها نافقة، وزراعتها متقدمة، وصناعتها رائجة شهيرة، حتى أن بعض الصناع يفوقون مهرة صناع بغداد بكثير، لاسيما في الوشي والتطريز والنقش والحفر على المعادن والتصوير وحسن الخط والصياغة والترصيع وتلبيس الخشب خشبا اثمن وانفس على أشكال ورسوم بديعة عربية وهندية وفارسية وهندسية.

ولما كان الغد وكان يوم السبت رأينا ما لم نره في الليل فسبقنا وصفه. وكنا نقف عند التجار زملائنا وحرفائنا ومعاملينا الذين نتعاطى معهم بالبيع والشراء.

وفي خارج المدينة نهر اسمه (الحسينية) (بالتصغير) وماؤه عذب فرات ومنه يشرب السكان، إلا أن ماءه ينضب في القيظ فتحرج الصدور، وتضيق النفوس ويغلو ثمن الماء، فيضطر اغلبهم إلى حفر الآبار وشرب مياهها وهي دون ماء الحسينية عذوبة فتتولد الأمراض وتفشو بينهم فشواً ذريعاً كالحميات والأدواء الوافدة. والأمل أن الحكومة تسعى في حفر النهر وحفظ مياهه طول السنة.

وفي كربلاء مستشفى عسكري ودار حكومة (سراي) وثكنة للجند وصيدلية وحمامات كثيرة، ودار برق وبريد وبلدية وقيسريات عديدة. وفيها قنصلية إنكليزية والوكيل مسلم واغلب رعية الإنكليز من الهنود وفيها قنصل روسي وهو مسلم أيضاً من كوة قاف (قوقاس) وهيئة كربلا الجديدة ترتقي إلى مدحت باشا الشهير. ويبلغ سكانها نحو ١٠٥. ٠٠٠ نسمة، منها ٢٥٠ ألفاً من العثمانيين، و٦٠ ألفاً من الإيرانيين وبعض الأجانب المختلفى العناصر و٢٠ ألفاً من الزوار والغرباء الوافدين إليها من الديار البعيدة. وليس فيها نصارى لكن فيها عدد من اليهود.

أما هواء كربلاء فمعتدل في الشتاء وردى في الصيف لرطوبته وأما في سائر أيام السنة فيشبه هواء سائر مدن العراق بدون فرق يعتد به.

والذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو زيارة قبر الحسين ابن بنت رسول المسلمين وقبور جماعة من شهداء آل البيت والحسين مدفون في جامع فاخر حسن البناء فيه ثلاث مآذن وقبتان كلها مبنية بالآجر القاشاني ومغشاة بصفيحة من الذهب الإبريز. وهناك أيضاً ساعتان كبيرتان دقاقتان وكل ساعة مبنية على برج شاهق.وفي كربلاء جامع آخر لا يقل عن السابق حسنا في البناء وهو جامع العباس وفيه أيضاً مئذنتان.

مجلة (لغة العرب) السنة الاولى 1911