قراءات في الرواية العراقية.. غانم الدباغ.. ضجة في الزقاق

قراءات في الرواية العراقية.. غانم الدباغ.. ضجة في الزقاق

ناطق خلوصي

كانت رواية غانم الدباغ " ضجة في الزقاق " قد صدرت في طبعتها الأولى عن مطبعة الأديب عام 1972 ثم صدرت في طبعة ثانية عن دار الشؤون الثقافية عام 2001 بتحرير هاتف الثلج الذي أضاف جزءاً ثانياً للرواية قال ان الروائي الراحل كان قد ائتمنه عليه وأوصاه بنشره.

ومع اعتزازنا بهذا الجهد المشكور فإننا سنتاول الرواية في طبعتها الأولى فقط دون الجزء الثاني لاسيما ان الروائي كان قد أشار في نهاية روايته إلى أنه كتبها بين عامي 1958 و1968 أي قبل ما يزيد على نصف قرن. توزعت الرواية على اثنين وعشرين فصلاً، وتدور أحداثها في الموصل في العهد الملكي( ثمة إشارة إلى زيارة الملك فيصل الثاني وخاله إلى المدينة خلال أحداث الرواية)، بطلها خليل القولجي موظف صغير يعيل أمه وأخاه الصغير و أخته الصغيرة، ويبدوأنه يعاني من جوع جنسي على الرغم من أنه كان يرتاد مبغى المدينة. كان يتلصص النظر بشهوانية إلى نساءالبيوت المجاورة خلل شقوق أو ثقوب في الجدار الفاصل أو عبر ستارة السطح. عمل على إغواء جارته ساجدة وهي " زوجة الشرطي معيوف الذي يعمل في النواحي البعيدة ويأتيها مرة أو مرتين في الشهر " ( ص 44)، وأفلح في المرة الأولى حين أقنعها بالخروج معه وقادها إلى منطقة أحراش خارج المدينة، لكنه فشل في المرة الثانية حين لا حقهما نفر من الصبية بعد أن اكتشفوا نواياهما وهددوهما بإثارة فضيحة لهما، (لقد انتشرت أخبار الفضيحة على ألسنة نساء المحلة فيما بعد)، ويلاحظ أيضاً أنه أغوى ابنة عمه المراهقة رمزية عندما كان يلقي عليها دروس تقوية في اللغة الانكليزية مع أنه كان يقيم هووأمه وأخوه الصغير وأخته الصغيرة في بيت عمه العقيد المتقاعدعبد الفتاح القولجي الذي طردهم شر طردة. ولابد من الإشارة إلى أن بطل الرواية لم يتحرش بصبيحة ابنة جاره المعلم محمد على التي كان يراقب حتى أخص تفاصيل جسدها من خلال ثقب أو شق في الجدار الفاصل بين بيتيهما. وربما نجد من يتساءل عن سر اهتمامه بالأولى. هل فعل ذلك بسبب بساطتها وحرمانها وسهولة انقيادها له، أم أن ثمة عاملاً خفياً يكمن وراء ذلك يتمثل في رغبته في الإنتقام من زوجها بما يمثله من سلطة قمع وتعذيب لأمثاله وهو يساري مرصود من قبل القوى الأمنية؟ ( كان أحد رجال الأمن يتتبعه من لحظة خروجه من المقهى إلى لحظة وصوله إلى بيته). لم يكن الجنس و حده شاغل فكر خليل ( وإن كان هو الأبرز). فقد كان موزعاً بينه وبين الثقافة والسياسة، وواقعاً تحت تأثير صديقه المحامي الشيوعي سعد اللة الذي كان يزوده بصحيفة الحزب السرية، لكنه يبدو حائراً، خائفاً، حذراً يقول لنفسه: " أنت ابن الطبقة التي زالت عنها النعماء وصوحت أرضها الخضراء... . وهذه الأيام تطلع عليك بالجديد....... الورقة تلسعك كالنار، كوخز الآبر، انها ما تزال بين ثنايا الكتاب الديني، تداعب حروفها الناعسة أفكارك " ( ص 82) وحسم أمره بالتخلص منها: " ولج الغرفة، ثم أولع القصاصات بالكبريت، فبدأت النار تسري فيها بخرخشة ناعمة وحروفها السوداء تتحول إلى كلمات بيضاء، فتبدوالكلمات أكثر وضوحاً وجلاءً، كلما ازدادت النار توهجاً " ص 83)، ويشي هذا المقطع بانجذابه إلى الفكر الذي تحمله الورقة. وحمد ربه أنه كان قد فعل ذلك فلو كان رجال الشرطة قد عثروا عليها عند تفتيش منزله أثناء توقيفه لكان وضعه مختلفاً. تجمع الرواية بين الشخصي والعام وتستأثر السياسة والأحداث المرتبطة بها باهتمام الروائي. فمن اضراب القصابين إلى التظاهرات التي اندلعت عام 1956 احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر حيث وجد خليل نفسه وسط إحداها وألقي القبض عليه من قبل القوات العسكرية التي تدخلت لفض التظاهرة. حين استجارت أمه بعمه عبد الفتاح أفندي القولجي قرر مد يد المساعدة إليه على مضض بضغط من ابنته التي كانت تأمل زواجها منه، ولسبب شخصي يتمثل في كونه يخشى أن يتعرض أبن أخيه للفصل من الوظيفة فتقع مسؤولية إعالة أسرة أخيه الراحل عليه. ويوظف الروائي عنصر المصادفة في أحداثها. كان سراح خليل قد أطلق بكفالة عمه لكنه أحيل إلى المجلس العرفي العسكري في مدينة ك ( كركوك في الغالب) فكتب له عمه توصية إلى رئيس المجلس وكانت المفاجأة أن أم خليل كانت صديقة زوجة رئيس المجلس مع انهما من مدينتين مختلفتين أو ربما كان رئيس المجلس العرفي موصلياً هو الآخر. ان غانم الدباغ يفكك شخصية بطله ويضعة مكشوفاً بعوراته الأخلاقية, ويكشف عن بعض سمات الواقع الاجتماعي في الموصل في أيام الأحداث، فنتبين، مثلاً، أن الشيخ يونس ( وكان صديقاً قريباً من بطل الرواية)، كان رجل أمن متستراً يتجسس على أصدقائه ومجالسيه في المقهى أو جلسات السمر. وكان واضحاً أن تبرئة بطل الرواية أمام المجلس العرفي العسكري كانت مصطنعة وفعلت الوساطة فعلها فيها. ومرت الرواية، ولكن على نحو سريع، بلمحات من تاريخ الحركة السياسية في الموصل. لقد تعرض بطل الرواية إلى ما خلخله نفسياً، ويتجلى ذلك في مقطعها الأخير: "هبط الدرجات الرخامية العريضة تحت الأقواس العثمانية الواطئة عائداً إلى هناك.. إلى مدينته وبرغم احساسه بأنه خرج من الاتون سالماً، إلا أن شعوره باندحار الانسان فيه كان أشد ".