أمسية غانم الدباغ الأخيرة

أمسية غانم الدباغ الأخيرة

جمال العتّابي

غادر غانم الدباغ الروائي والقاص والمترجم مبنى إتحاد الأدباء في ليلة من عام 1991، يوم كانت الأجراس تنذر بحرب جديدة، بعد أن هربت البلاد من أخرى، متجهاً إلى منزله في السيدية، إحدى أحياء بغداد الغربية، عبر شوارع الكرادة التي يتقاسم معها غانم الضوء والشوق والهوى المقيم في أعماقه، وكل تباريح الدنيا ومسرّاتها.

والليل في بغداد تلك الأعوام ملغوم بالصمت والخوف من حصار سيأكل الأخضر واليابس، ما زالت فوق الجدران دماء لم تجف من بقايا الحروب والغزوات والقمع والهزائم، كل شيىء يدثره الحزن، كان الدباغ يوزع أيامه بين مبنى الإتحاد وبين أحلامه الضائعة، ينادمه أدباء قصاصون وشعراء، من أجيال وأعمار مختلفة، يتحدث البعض منهم عن إنتصارات كاذبة، وآخر يحاول إيقاظ الجمر في المدن المهملة، ومنهم من يغازل النجوم الآفلة، والكل سكارى يشربون الأوجاع، حتى أعناق نخلات حديقة الإتحاد تبدو جرداء بلا ثمر تغص بالآهات. لكن الجميع يحاول أن يزيح عن الوطن سوءات الأعوام المرّة.

يعبر غانم الدباغ الجسر المعلق بسيارته المتعبة (الموسكوفيج) الروسية الصنع، غير مصدق بعودة الجسركائناً يروي طريقة ذبحه من قبل قوات ( الحلفاء) ورميه في الماء ككوم من حديد، ربما كان غانم يحلم وهو في أعلى الجسر أن يصنع له قارباً يبحر به إلى مرافىء آمنة بوطن هادىء، ربما كان ينصت الى سمفونية ل(باخ) إعتاد سماعها من أشرطة مسجلة ترافقه أينما يحل، حتى وهو يتهيأ لكتابة قصة قصيرة، الموسيقى تطير به مثل إرجوحة في الهواء إلى بهاء نجوم الموصل، إلى محلة النبي شيت و(ضجة في الزقاق)، في محلة النبي جرجيس.

لم ينعطف الدباغ بسيارته نحو الغرب، حيث الشارع الفسيح المؤدي الى بيته، بل إتجه نحو اليمين، الى بوابة القصر الجمهوري، الترسانة الصخرية المدججة بالسلاح والعيون، تتوقف السيارة بصرخة محبوسة في الصدر تشلّ الجسد الذي ينضح بخمر الصبوات، من يغيث غانم من تلك الفوهات السوداء التي تبحث عن مرتع لها في جسد تطرّزه المعرفة والأمنيات؟ عن أي حاجة تبحث تلك الوجوه وهي تنّقب في رأس غانم عمّا خبأه من أسئلة، وما أرّخته المقادير له؟.

في المشفى يصحو غانم على شلل عطّل أطرافه ولسانه، وقد تضاءل جسده وإصفرّ وجهه، وفي عينيه سؤال عن زهور الصباح التي تلوّن حديقة منزله، ترى من يردّ إليه بياض اليدين، وبهاء العيون؟ من يدلّه على الطريق حين يحاصره العسس الليلي، ها هو خليل بطل روايتك يفصح عن مصيرك قبل عقدين من الزمن: قبل سنوات كنت تخشى الظلام، تخشى أن تتأخر بعد التاسعة مساءً، وتدلف إلى زقاقكم المعتم لأن أقاصيص جدتك وأمك كانت تخيفك من العتمة التي غرست في وعيك الباطن، ان الظلام هو الموت.

انها العتمة إذاً يا غانم، طرقت بابك وأنت مشتعل بالوجد وباللهفة، لقد تيبستَ وجف ّ ريقك، وأثقلتك الأيام بالحزن على أيامك السالفات، في دار المعلمين الريفية، وضوء مساجد الموصل وكنائسها، تحمل بين يديك أوراقك المهداة للأقرب اليك من أبناء جيلك، عبد الملك نوري وفرمان ورشدي العامل، الى ماء مجموعتك الأولى العذب، لمدينتك التي هجرتها قسراً، حين إشتد فيها صوت الرصاص وتعالى، وهاجت النفوس، فأصغيت إلى نداء الروح باحثاً عن فضاء جديد يقيك الحراب، وقيود المعاصم، فغادرت موطن الأحلام والحب، ولأنك لاتريد أن تضيّع المفتاح الصغير للدخول إلى العصر، تركت الضجيج والدّوي والأجوبة غير المقنعة، ففتحت لك بغداد بيتها وقلبها ورحت نحو الآفاق المشرقة، تنتج وتعطي إبداعاً وإنسانية، ليزهو من بعدك مريدوك بما منحت من عطاء. فلا تخف ياسيدي من غربة الروح، لأنك لم ترحل إلى أرض الصمت.