حقي الشبلي..  من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وباريس

حقي الشبلي.. من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وباريس

سامي عبد الحميد

ذهب حقي الشبلي إلى دنيا الآخرة ولم يترك في الدنيا الحاضرة إلا سمعته الطيبة وإرثه من المعرفة الفنية، حيث بقي المدرسون في معهد الفنون الجميلة ينهلون من محاضراته سنوات من بعد وفاته.. ولاأزال أحتفظ بنموذج منها بخط يده يحتوي على موضوعات عن الأنواع الجمالية للمسرحيات، كالكلاسيكية والكلاسيكية الجدية والرومانسية،

وموضوعات أخرى في الأدب المسرحي العربي ومبدعيه مثل: أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم. كما أنه ترك أخلافه من المتخرجين في فرع التمثيل، الذين أصبحوا رموز الحركة المسرحية في العراق، ومن العاملين على تقدمها، مثل: إبراهيم جلال، وجعفر السعدي، وجاسم العبودي - من الراحلين، وأسعد عبدالرزاق، وبدري حسون فريد، وسامي عبدالحميد، ويوسف العاني - من الأحياء. غادر حقي الشبلي الحياة وقد عاشها من دون زوجة ترعاه وتخلّف له ولدًا يحمل اسمه، وبقي الأمر سرًّا دُفنَ مع رفاته.. (ويقال إنه تزوج من امرأة تركية مدة قصيرة، وليس هناك من دليل!).

نشأ حقي الشبلي في عائلة بغدادية محافظة بمنطقة الحيدرخانة، وكان والده من المتصوفة الذين يقيمون المناقب النبوية وجلسات الذِكْر.. ولم يخطر ببال الأب أن ابنه الصغير سيكون له شأن في حقول الفن، وسيتمتع بصيتٍ تذكره الأجيال.

كان الشبلي قد دخل عالم المسرح عن طريق الصدفة. فعندما زارت "فرقة جورج أبيض" المصرية بغداد، وكانت بصدد تقديم مسرحية "أوديب"، احتاج المخرج إلى صبي لتمثيل دور "ابن أوديب"، ومن بين مجموعة من صبية بغداد، وقع اختياره على الصبي "حقي" ليمثل الدور، وكان ذلك العام 1926. وعندما زارت "فرقة فاطمة رشدي" بغداد شارك الشبلي بتمثيل أحد الأدوار الثانوية.. وعندما شاهد الملك فيصل الأول المسرحية التي مثّل فيها الشبلي أعجب به، ووافق على طلب المخرج عزيز عيد بالتحاق الشبلي بالفرقة المصرية عند عودتها إلى القاهرة ليتدرّب هناك، فكان أن قضى سنة كاملة. وعند عودته إلى بغداد وجد أن الفرقة الوطنية للتمثيل، التي كان أسسها في وقت سابق، قد انشطرت إلى فرقتين، إحداهما تنكرت له واستقلّت عنه، أما الثانية فقد بقيت موالية له، واستمرت بتقديم عروضها المسرحية في بغداد وعدد من المدن العراقية، ولم تتوقف إلا حين سافر متمتعًا ببعثة دراسية إلى باريس في العام 1936، وقد وافقت وزارة المعارف على تلك البعثة بعد أن شاهده مدير المعارف (سامي شوكت) يمثّل دورًا رئيسًا في مسرحية "الهاوية" التي قُدّمتْ على مسرح الإعدادية المركزية ببغداد.. وكان كل من السيدين رشيد عالي الكيلاني وياسين الهاشمي، وهما من ساسة العراق البارزين، قد شاهدا المسرحية وأعجبا بتمثيله.

أمضى حقي الشبلي ما يقرب من أربع سنوات في باريس، يحضر التمارين الخاصة بإنتاج المسرحيات، ويتابع أعمال المخرجين البارزين أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وفي مقدمتهم "لويس جوفيه"، كما يستمع إلى محاضرات الدارسين والمدرسين. بعد عودته من باريس بوقت قصير أقنع المسئولين في وزارة المعارف بضرورة افتتاح فرع للتمثيل في "معهد الفنون الجميلة"، إلى جانب فروع الرسم، والنحت، والموسيقى الشرقية والغربية، وتلقى تشجيعًا من عميد المعهد محيي الدين حيدر، وهو من أفراد العائلة المالكة، وتمّت الموافقة على فتح الفرع عام 1940.. وتمّت الموافقة، أيضًا، على نقل مقر المعهد من بيت في شارع السعدون إلى بناية في منطقة الكسرة، قريبًا من الأعظمية، كانت مقرًا للنشاط الرياضي المدرسي، ضمن مؤسسات وزارة المعارف.. وتم تحويل "الجيمنيزيوم" إلى مسرح. وما إن مرّت سنتان على فتح الفرع حتى راح حقي الشبلي يقدّم عروضًا مسرحية موسمية، فضلًا عن العروض الموسيقية. وفي البداية كانت تلك العروض تقدّم في قاعة الملك فيصل الثاني (قاعة الشعب، من بعد) حينًا، وعلى مسرح المعهد، أحيانًا أخرى. وكانت مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير من أبرز المسرحيات التي أخرجها الشبلي أثناء إدارته للفرع، ومثّلتُ فيها دور "ديسيوس"، وكنتُ أرغب في تمثيل دور "أنطونيوس"، أو دور "بروتس".. ولكن أستاذي فضّلَ عليَّ طالبين آخرين لتمثيل الدورين، وربما كان للمشادة الكلامية التي وقعت بيني وبينه حول منع عرض أحد النصوص المسرحية التي ألّفتها، أثرها في عدم إسناده لي أحد الدورين الرئيسين. وأذكر أن المسرحية قُدمت أيام الاحتفالات بتتويج الملك فيصل الثاني ملكًا على العراق في العام 1953 بعد مقتل أبيه الملك غازي، ما دعا أستاذنا الشبلي إلى أن يضيف مشهدًا كتبه بنفسه ليختتم به المسرحية، ويقضي بتتويج "أوكتافيوس" قيصرًا على روما. وفي وقتها أخذنا تلك الإضافة مجاملة للسلطة ومساهمة في احتفالاتها.

في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين استطعتُ أن أحضر إلى قاعة الملك فيصل لأشاهد الحفل المسرحي السنوي الذي يقدمه طلبة فرع التمثيل في المعهد، الذي يقوم الأستاذ الشبلي بإخراج فقراته، وضم البرنامج ثلاث مسرحيات قصيرة، الأولى "الطاحونة الدامية"، وهي مسرحية مترجمة ذات مضامين وطنية.. والثانية "مجنون ليلى" للشاعر الكبير أحمد شوقي.. ووقتها أعجبني صوت أحد الممثلين وهو يؤدي الدور الذي يقول فيه: "هيلا هيلا هيّا.. نطوي الفلا طيّا..."، وعرفتُ، من بعد، أن الطالب المغني هو ناظم الغزالي! أما المسرحية الثالثة فكانت باللهجة البغدادية، وتناولت موضوعًا من الحياة اليومية في بغداد، وشارك في تمثيلها الطلبة الذين شكلوا، من بعد تخرجهم، ما عُرف بـ"فرقة الزباينة" التي عُرفتْ بعروضها الكوميدية الشعبية، كما عُرف عنها أنها قدمت عددًا من عروضها للترفيه عن أفراد الجيش العراقي المشارك في حرب 1948 في فلسطين. ومن بين أولئك الممثلين: ناجي الراوي، وحميد المحل، وفخري الزبيدي، ومحمود قطان، وحامد الأطرقجي. وأذكر أن الشبلي أشرك أولئك الممثلين، وسواهم من الكوميديين، في تمثيل فصل واحد من فصول مسرحية توفيق الحكيم "شهرزاد"، الذي كان يسميه "فصل الحشاشة"، وقدّمَ ذلك الفصل في إحدى حفلات فرع التمثيل المسرحية.

وبقدر ما كان حقي الشبلي في حياته الفنية مدرّسًا مقتدرًا، ومخرجًا متمكنًا، وإداريًا ناجحًا، كان ممثلًا مبدعًا اعتاد في أثناء الدرس، وعندما يفشل الطلبة في تقديم أداء مقنع، أن يرتقي خشبة المسرح، ليمثّل أحد الأدوار فيسحرنا بأدائه الأخاذ، وبجمال تعبيره الصوتي والجسماني.. وكان شاعرنا الكبير جميل صدقي الزهاوي على حق عندما أشاد بتمثيل الشبلي في إحدى قصائده التي قال فيها:

عظيمٌ‭ ‬على(‬حقّي‭) ‬لنفسي‭ ‬المُعوِّلُ فليس‭ ‬كحقي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬ممثّلُ

يصوّر‭ ‬بأســــاء‭ ‬الحياة‭ ‬وطيبها وما‭ ‬يهجـس‭ ‬الصعلوك‭ ‬والمتجوّلُ

وإنّي‭ ‬لفي‭ ‬التمثيل‭ ‬للناس‭ ‬واجدٌ طريقًا‭ ‬إلى‭ ‬صدق‭ ‬العزيمة‭ ‬يوصلُ

أرى‭ ‬غير‭ ‬حقي‭ ‬يشغل‭ ‬العين‭ ‬وحدها إذا‭ ‬رام‭ ‬تمثيلًا،‭ ‬وللروح‭ ‬يهملُ

ولكنّ‭ ‬حقي‭ ‬للعينـين‭ ‬وللـنهى ‭ ‬وللسمع‭ ‬والروح‭ ‬الشجية‭ ‬يَشــغلُ‭ ‬

مجلة (العربي) العدد / 667 ــ في حزيران 2014